الجمعة 26 ابريل 2024

يوليو.. ملايين ومليارات

مقالات27-7-2022 | 20:50

مر على ثورة 23 يوليو سبعون عامًا، سبعة عقود كاملة، كان يمكن لهذا الحدث الفارق أن يدخل مخازن التاريخ برحيل أشخاصه أو بفعل تدافع الأحداث طوال هذه الفترة الزمنية، لكن منذ انطلاق ثورة يوليو وهناك ملايين من البشر حريصين على التشبث بكل مبادئها ليس فى مصر فقط، بل فى كل العالم الباحث عن العدالة  وأيضًا هناك مليارات من الأموال أنفقت من أجل أن تمحى من ذاكرة البشر الباحثين عن العدالة مبادئ هذه الثورة، هذ المليارات انتقلت من صحف وكتب إلى إذاعات ثم إلى فضائيات وأخيرًا السوشيال ميديا آخر الوسائل التى يستخدمها أعداء يوليو فى الهجوم على الثورة وقائدها جمال عبد الناصر.

نعم.. طوال سبعة عقود كانت يوليو بين إيمان الملايين وجنون المليارات التى تنفق من أعدائها الصريحين والمتوارين لمحاولة إخفائها من التاريخ.

الملايين هنا هم البشر المصريون الذين خرجوا يؤيدون الثورة فى 23 يوليو 1952، هم الحفاة الذين أكلت قسوة الأرض أقدامهم، هم الغرقى فى فيضان النيل، العطشى فى الجفاف ومن شيدوا السد العالى، هم المرضى الذين أكلهم السل والأوبئة فى مستشفيات الملكية كما وصفهم الطبيب الإنجليزى سيسيل البورت فى أربعينيات القرن الماضى فى كتابه عن أحوال المستشفيات المصرية وقت عمله بها ولم يكن د. البورت ناصرى أو رأى الثورة القادمة بل ينتمى إلى بلد الاحتلال لكن هول ماشاهده جعل ضميره ينفجر بالحقيقة.

الملايين هم الجنود والعمال والفلاحون فى زحفهم لتأميم القناة وتركيع الإمبراطوريات.. فى خروجهم 9 يونيو لرفض الهزيمة، فى احتشادهم على الضفة الغربية للقناة يبنون حائط الصواريخ ليستنزفوا العدو والغرب المتغرطس، هم الذين خرجوا تحية للكرامة فى وداع البطل القائد جمال عبد الناصر سبتمبر 1970. 

لم تمر إلا ثلاث سنوات على رحيل الرجل العظيم حتى كان أبناء الثورة الذين تعلموا فى مدارسها المجانية وتحرر آباؤهم من استبداد طبقة مستغلة تمتص دماءهم يعبرون القناة ليحققون النصر فى أكتوبر 73 بقيادة أحد صناع يوليو الرئيس السادات. 

إنها نفس الملايين التى استعادت نفسها فى الـ30 من يونيو 2013 لتطيح بأعدائها المتربصين من الاستعمار الحديث والقديم وحلفائه من الفاشيست مدركة حجم التحدى مدركة حجم الحرب، لأنها تبحث عن المستقبل عن التحرر من  أوزار المتمسحين بالدين، هذه الملايين انتفضت وثارت لأن لها ذاكرة ومرجعية قتال ونصر، مرجعية امتدت من يوليو إلى يونيو.

أما حديث المليارات فهو حديث الخيانة، الزيغ، الإفك، والدعاية السوداء، إنها مليارات من الدولارات أنفقت ممن نظنه صديق ومن عدو صريح كان غرضه الرئيسى أن نكفر بيوليو ونكفر بالكرامة ونكفر بالسيادة والاستقلال والدولة الوطنية.

أراد منفقو المليارات أن نرى فى جنود الاحتلال الإنجليزى يتجولون فى شوارع القاهرة شرف.. لأن من ينفقون المليارات من صديق مزيف وعدو صريح يريدون استقطاب البلهاء لكى يسيروا فى بلاهة وراء ركاب المزيف والصريح مرددين نفس دعايتهم السوداء ضد يوليو، غرضهم الرئيسى ألا تكن لهذه الأمة وقفة ضد الصديق المزيف والعدوالصريح يريدون بملياراتهم محو الذاكرة الوطنية لأمة بحجم الأمة المصرية يتوهمون أن ملياراتهم ستحول العار إلى شرف والعبودية إلى استقلال. 

عندما تتابع حربهم الدعائية السوداء فى آخر تطوراتها على وسائط السوشيال ميديا يصيبك حجم الأفك والأكاذيب التى تطلقه هذه الدعاية بالاشمئزاز ومدى الكره الذى يحملونه فى قلوبهم الحاقدة ضد العدالة التى حملتها يوليو إلى المصريين والعالم أجمع لأنهم يخشون هذه العدالة يرون فيها خطرًا على مكاسبهم التى تتحقق من استنزاف دماء الشعوب. 

يصورون فى دعايتهم السوداء أن مصر قبل 1952 كانت بلدًا سعيدًا هادئًا يحكمها ملك لطيف يوزع العدالة والخير على الجميع والمصريون راضون قانعون بهذا الخيرالوفير كأنها حدوتة من ألف ليلة وليلة ولكن من نغص على هذه البلد السعيد سعادته هذه الثورة التى جاءت لتطرد الملك اللطيف.

يأتيك  التاريخ بحديث قرية بهوت فى الدقهلية ومئات من القرى المصرية فى ريف مصر، وحديث التاريخ لايدور فى القرن التاسع عشر بل قبل ثورة يوليو بعام واحد فى صيف العام 51 عندما استولى الاقطاعيون على محاصيل الفلاحين البؤساء وتركوهم بلا رحمة يواجهون الجوع حتى تمتلئ خزائن الإقطاع بالمال، أمام الجوع ودوام الذل والبؤس خرج الفلاحون المصريون يواجهون الإقطاع والإقطاعيين ويحرقون قصورهم ومن بهوت امتدت هذه الثورة إلى مئات القرى الأخرى فكانت المواجهة بالرصاص الحى ليرتقى الشهداء من البسطاء المحرومين من حق الحياة أما الملك اللطيف فانشغل عن رعاياه وعبيد إحسانه بنزوات أمه وشقيقته فى مدن الولايات المتحدة. 

تحاول دعايتهم السوداء أن تحرف حديث التاريخ أو تراه أمرًا عابرًا لكن يأتى شاهد ليس من أهل مصر بل من المحتلين ليقدم صورة كلية لحجم البؤس الذى عاشه الفلاح المصرى وأن ثورته على الإقطاع تحت حكم الملك اللطيف لم تكن من فراغ  فنعود لكتاب الطبيب سيسيل البورت (ساعة عدل واحدة ) ترجمة بشير محفوظ 
يقدم د. البورت جزءًا من تقرير كتبه هيلارى وايمنت من الجماعة الثقافية الانجليزية بتكليف من قيادة القوات البريطانية عام 1943 عن أحوال الفلاحين المصريين "يحمل الفلاح المصري فوق كاهله كل وزن الهرم الاجتماعي تقريبًا فهناك أربعة ملايين من الفلاحين يعملون في الحقول مع عائلاتهم لدعم أثنى عشر ألفًا من مالكي الأرض ومائتي ألف بيروقراطي وألوف من تجار القطن والمرابين المنتشرين في القرى بالإضافة إلى البنوك المتخصصة في رهن الأراضي ومصدري القطن الكبار الذين تنبع كل أرباحهم من جهد وعرق الفلاح " هذه أحوال البلد السعيد كما رآها تقرير المحتل.

أما مشاهدات الدكتور البورت نفسه فهى تصف أشد انواع البؤس الذى كان يعيشه المصريون فى قراهم فى ظل العهد السعيد " من أكثر الأمور بشاعة فى حياة الفلاح هى مصير أطفاله فبمجرد أن يفطم الرضيع حتى يفقد الوزن تدريجيًا ويموت بسبب نقص البروتين فى غذائه ومعدل وفيات الأطفال في مصر هو الثاني على مستوى العالم فتبلغ نسبته مقارنة بإجمالي المواليد 26.5% بذلك تزيد أربع مرات ونصف عن نفس المعدل فى انجلترا وسبع مرات عن هولندا " وكان رأى د. ألبورت أن لا أمل فى خروج الفلاح المصرى من حالة البؤس طالما ظلت طبقة الإقطاعيين وكبار الملاك وباشوات السياسة الفاسدين متحكمين فى مصير مصر وفلاحيها. 

هذه حال الأرض وأبنائها التى جاءت يوليو لتحررهم من البؤس، أما فى المدن المصرية التى كانت تنافس باريس ولندن فى الجمال كما يدعون فسكان هذه المدن من المصريين البسطاء كان لهم أمل وحيد أن يحصلوا على حذاء لأن المصريين كانوا فى أغلبهم شعب من الحفاة وفى كل عام يجتمع جلالته مع حكومته الرشيدة لأجل وضع مشروع عظيم لإنتاج الأحذية و"الشباشب" حتى ينعم المصريون بالتجول فى شوارع مدنهم الجميلة المنافسة للعواصم الأوروبية وهم يرتدون الأحذية ولكن حتى اليوم الذى طرد فيه جلالته من الإسكندرية لم تتحقق مشروعاته العظيمة فى تصنيع الأحذية.

لا تنسى الدعاية السوداء أن تضيف إلى جلالته غير اللطافة الإحساس الوطنى بأنه فضل التنازل عن الحكم حتى لا يصاب أحباؤه المصريون بأى أذى لكن الحقيقة كانت غير هذا تمامًا ففاروق الجشع النهم للملك طلب من البريطانيين احتلال القاهرة وقصف الإسكندرية فى يوم الثورة كما فعل جده الخائن الخديوى توفيق مع عرابى ورفاقه.

ففى كتاب الباحث الأمريكى جيفرى أرونسن (واشنطن تخرج من الظل ) يكشف بالوثائق فى كتابه حقيقة ما حدث يوم الثورة "ظل القصر على اتصال مباشر بكافرى ـ السفير الأمريكى ـ لإقناع البريطانيين بالتدخل لإنقاذ عرش فاروق وفى نداء مباشر إلى البريطانيين طلب فاروق من الجنرال سليم قائد القوات البريطانية فى مصر احتلال القاهرة وقصف الإسكندرية"، هذا هو الملك المحب لشعبه الحريص على بلده إنها نفس طبائع الجد توفيق. 

التاريخ لا ينسى ولكن فقط يحتاج من يقرأ ولا يسلم عقله إلى دعاية سوداء تنفق عليها المليارات لأجل محاربة مبادئ يوليو التى ما زالت هى وقائدها جمال عبد الناصر تمثل الرعب للاستعمار وعملائه من الفاشيست، لكن مهما أنفقوا من مليارات فهناك الملايين الذين سيحملون فى قلوبهم مبادئ يوليو التى كانت ملهمة هذه الأمة فى ثورتها العظيمة فى يونيو.

Dr.Randa
Dr.Radwa