الخميس 21 نوفمبر 2024

مقالات

الحب والاستثناء .. هوامش على قصة أمل دنقل وعبلة الرويني

  • 28-7-2022 | 09:15
طباعة

الحب عالم استثنائي دائما، عالم يعرفه العاشقون وحدهم، أبجدياته تستعصي على علماء اللغة، الحب تلك الأبجدية التي لا يدركها العقل، إنما يدركها الإحساس، هو تلك النظرة التي تتفهمها العيون، وتلك الخصوصية في علاقة المحبين، وتلك الموجات التي لا تتوقف صعودًا وهبوطا آناء الليل وأطراف النهار، هو ذلك اللقاء الباعث علي حب الحياة برغم كل الأحزان، هو تلك اللحظة السرمدية التي تغيب فيها القدرة على الاختيار، وتضطرب ضربات القلب مؤذنة بصوت الحب، فلا نملك إلا الاستسلام لصوت القلب.

كان أمل دنقل شخصية استثنائية، كذلك شاعرًا فريدًا مختلفًا، كان يمسك على أفكاره كالقابض على الجمر، لم يكن هناك ما يمكن أن يجبر "الجنوبي" على المهادنة، ففي العام 1962 سطّر قصيدته، "كلمات سبارتكوس الأخيرة" والتي قال فيها: 

المجد للشيطان معبود الرياح
من قال "لا" في وجه من قالوا نعم
من علم الإنسان تمزيق العدم
من قال "لا".. فلم يمت
وظل روحًا أبدية الألم. 


المطالع للقصيدة يمكنه أن يدرك صلابة ذلك الشاعر وقدرته على المواجهة، وعدم الاستسلام، لكنه لم يستسلم إلا لحب عبلة الرويني، هي أيضا شخصية استثنائية، لم تكن تلك الفتاة العادية، إنما هي امرأة من زمن الحب، بكل ما تحمل العبارة من معنى، فهي شخصية حالمة مثقفة، تحدت كل شيء حتى أمل دنقل نفسه، فكانت قصة حبهما برغم ما فيها من أوجاع إلا أنها كانت أجمل قصائد ديوان الغرام العربي. 

بدأت "الرويني" مشوارها في بلاط صاحبة الجلالة بفكرة حوار كان محفوفًا بالتحديات، اختارت شخصية صعبة المِراس، مثقفًا وشاعرًا يساريًا، هو أمل دنقل، كان في ذلك الوقت من الصعب أن يتم تصدير أفكاره للشارع داخليا، إلا أنها أصرت أن تجري الحوار معه.

 
 وبالفعل ذهبت لتبحث عنه في أماكن تجمع الأدباء والمثقفين، كانت تذهب إلى مقهى ريش كل يوم في الصباح الذي كان يرتاده الشاعر في مساء كل يوم، إلا أنها لم تستطع مقابلته، بسبب أنها كانت تبحث عنه في الصباح، إلى أن تمكنت من معرفة موعد حضوره اليومي لـ"ريش" في المساء، وتركت له رسالة في "ريش" كان فحواها، "أمل دنقل، يبدو أن العثور عليك مستحيلٌ، يسعدني الاتصال بي في جريدة الأخبار، ويشرفني أكثر حضورك". 


وفي اليوم التالي تلقت " الرويني" اتصالا منه وحدد موعدًا لها في دار الأدباء، وعقب اللقاء الصحفي صارا صديقين والتقيا أكثر من مرة، وفي اللقاء الرابع، قال لها بلا مقدمات: "يجب أن تعلمي أنك لن تكوني أكثر من صديقة!"، فردت عليه: "أولاً لست صديقتك، ولن أقبل لأحد أن يحدد مشاعري وعلاقتي بالآخرين"، هكذا كانت شخصية استثنائية. وفي كتابها "الجنوبي" الذي تسرد فيه سيرة الشاعر وعلاقتهما تكشف عن أن تلك العلاقة كانت مليئة أيضا بالعناد والمشاكسات، لكن الحب المتبادل طغى عليها. 

وبالرغم من كل التحديات، والفوارق بينهما، إلا أن الحب يظل عالمًا استثنائيًا، ففي العام 1979 تزوج الشاعر أمل دنقل من الصحفية الشابة عبلة الرويني، لم يمنحهما القدر تلك المساحة من الحياة معا، فقد أصيب " الجنوبي" بمرض السرطان؛ كانت آلام السرطان تباغته، وكان يوجهها بقلب شاعر، ظل قابعًا في الغرفة رقم 8 بمعهد الأورام 3 سنوات، كان سلاحه دائما ذلك الحب الاستثنائي، وهنا أتأمل كثيرًا تلك الرسالة التي خطها الشاعر لحبيبته.. " حسنا لا يهم؛ فلقد عودت نفسي على أن أعاملك طبقا لإحساسي وليس طبقا لانفعالاتك، أحبك ولا أريد أن أفقدك أيتها الفتاة البرية التي تكسو وجهها بمسحة الهدوء المنزلي الأليف.. صباح الخير أخرى، سأحاول أن أعود للنوم، فالساعة الآن لم تتجاوز العاشرة، هناك أربع ساعات باقية على موعدك، وأنا لم أنم جيدًا، سأحاول أن أنام، آن آخذك بين ذراعي، وأخبئ رأسك العنيد في صدري لعله يهدأ ولعلى أستريح". 

كانت حاضرة في كل لحظة، كانت الصديقة والحبية والزوجة والطفلة، كانت حاضرة حتي في غيابها، وهو ينتظر موعد وصولها، ضمها بين ذراعيه كأنه يهددها، علها تكون ذلك الدواء الشافي من الألم فيستريح.  


أمل دنقل أحد أبرز مثقفي جيل الستينيات والسبعينيات، فقد نحت قصائد لا تزال تحفظها الأجيال، تحملها القلوب، ويخطها الكتاب في الصحافة العربية، فهو الحاضر الغائب بقصائده الرائعة، ومواقفه، كان يحمل قلبًا نابضًا بالحب والحزن في آن واحد على انتكاسات العالم العربي فكانت رائعته: 
لا تصالحْ!
..ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى..: 
رحل جسد أمل دنقل، وتظل قصة حبه والكاتبة عبلة الرويني قصيدة حب استثنائية في ديوان الغرام العربي.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة