انتهينا في مقالنا السابق الذي حمل عنوان "الفلسفة كما يجب أنّ تُفهم"، عند تساؤل هل نستطيع بقراءة الفلسفة أن نصل لرؤية حقيقية للواقع، لا تحمل شوائب تطمس معالم الواقع، وتمنحنا ترتيبا جيدا للمستقبل، ام ينقصنا وسيط بيننا وبين قراءة وفهم الفلسفة حتى نصل إلى هذه الرؤية وذلِك الترتيب؟ يتطلب منا الإجابة عن هذا السؤال بشَقِيَّة الاثنين، أن نُزيل الغموض والالتباس حول الفلسفة، وهو الطريق الذي بدأناه في المقال السابق، وعزمنا وتوكلنا على بيانه في هذا المقال ايضاً، ولكن هل ستُساعدنا الفلسفة حقاً على فهم الحياة بشكل أفضل؟
نسمع في كثير من الأحيان أقاويل ودعاوى تدور حول عدم قيمة الفلسفة وأنها لا تعدو إلا أن تكون علماً نظرياً بحتاً بعيداً كل البعد عن الواقع، إلا أنه عند مراجعة ومناقشة هذه الأقاويل مع مُثيرها، نكتشف أن حُجتهم في ذلك غموض الفلسفة وتخصصيتها، أي أنهم قرأوا الفلسفة بطريقة خاطئة، ونقصد بهذه الطريقة أنهم يفهموا الفلسفة منذ بدايتها (اقصد الفرع اليوناني "الفلسفة اليونانية") ولكنهم قرأوا في فروعها الأخرى كالحديثة والمعاصرة، دون أن يعطوا لأنفسهم حق الفهم والمعرفة لأصول هذه الفلسفات. وهذا ما أكده العالم الإنجليزي ألفرد نورث هوايتهد، قائلاً: " إن الفلسفة العربية كلها لا تفهم إلا باعتبارها حواشي على أفلاطون".
ومن ناحية أخرى أكد هذا ايضاً الفيلسوف الفرنسي "بيير هادو"، قائلاً: " كانت الفلسفة القديمة تقترح على الجنس البشري فناً للعيش، وعل العكس من ذلك تبدو الفلسفة الحديثة، فوق كل شيء، كتشييد لرطانة تكنيكية مقصورة على المتخصصين".
وبهذا نستطيع أن نُدرك أتم الإدراك، أن الفلسفة مثلها مثل البناء المعماري لا يمكننا أن نصعده إلا إذا دخلنا من بوابته وصعدانا الطوابق الأول ثم الثاني وهكذا، والفلسفة اليونانية بمثابة البوابة، بل والطابق الأول أيضاً، وبقراءتك للفلسفة اليونانية تستطيع أن تقف على أولى دراجات الفهم الفلسفي، بل وتستطيع أيضاً التوغل في الفلسفة بفروعِها التخصصية.
ونعود إلى السؤال الذي آثرناه في بداية المقال وهو، هل نستطيع بقراءة الفلسفة أن نصل لرؤية حقيقية للواقع، لا تحمل شوائب تطمس معالم الواقع، وتمنحنا ترتيبا جيدا للمستقبل، أم ينقصنا وسيط بيننا وبين قراءة وفهم الفلسفة حتى نصل إلى هذه الرؤية وذلِك الترتيب؟ ولكننا نريد هنا أن نُعيد السؤال على أنفسنا، ولكن في شقه الثاني، وستكون الإجابة بالإيجاب والموافقة.
نحن في أمس الحاجة إلى مُدرس – سواء في المرحلة الثانوية والجامعية – قادرا على الفهم والاستنتاج والتطبيق. هذه الصفات الثلاث إذا اجتمعت بحق كل صفة، نستطيع أن نُجزم اننا لدينا مدرسا لديه مهارات خاصة وضرورية لتدريس الفلسفة.
أضف إلى ذلك قارئي الكريم، ضرورة امتلاك ملكة البحث، انتهى بنا الحال في العقود السابقة على نمط واحد من التعليم وهو التلقي، وللأسف أدركنا ونحن في مطلع القرن الواحد والعشرين أننا لن نستطيع أن نتقدم خطوة واحد للأمام بدون بحث علمي منظم، ولكني هنا لن أقصد البحث العلمي بمعناه الواسع، بل أقصد البحث الدقيق عن المعلومة والتعلم الذاتي للمُدرس قبل الدارس، حتى يستطيع أن يسبق عقول طلابه.
وخير ما نستند إليه في هذا الصدد ما انتهى إليه الدكتور عزت قرني – رحمة الله عليه – في كتابه مستقبل الفلسفة في مصر، قائلاً: "إن البحث ضد التلقي. والتلقي يتم بالتلقين، وهو نوع من التعليم، على غير التعليم الذاتي، الذي هو نوع من البحث.
إن البحث تجريد للقوى الذاتية من أجل كشف مجهول أو الإجابة عن سؤال أو حل إشكال، وفيه يعتمد الذهن على ذاته وعلى معارفه في المحل الأكبر، ويحدد لنفسه هدفاً، ويسلك في بحثه منهجاً ذا ترتيب، يطيع فيه قواعد ضعت أو وضعها لنفسه مسبقاً، قواعد تتوافر فيها الموضوعية والنزاهة.
والسؤال الآن، ماذا يحدث إذا لم نوفر للمؤسسات التعليمية هذا التربوي بصفاته الأربع؟ بالطبع سيصل بنا الحال، كما حدث في المملكة العربية السعودية، حيث قامت السعودية بوقف تدريس الفلسفة بجميع مؤسساتها التعليمية، وللمصداقية سأسرد لكم الخبر كما نُشِرَ على الموقع الإلكتروني تابع لإدارة (اندبندنت عربية) إحدى مطبوعات الشركة السعودية للأبحاث والنشر في المملكة العربية السعودية.
تفاجأت ذات يوم بخبر يشعل الساحة الإعلامية، عن "إقرار تدريس الفلسفة في المناهج السعودية لمواكبة التطورات الفكرية". وقبل أن أصف لكم حالتي عند قراءة الخبر، أترككم لقراءته، وكان الخبر كالآتي: "توقفت بعض لحظات في حالة من الذهول والارتباك، وذهبت للبحث على شبكة الإنترنت للتأكد من صحة الخبر، وفوجئت للمرة الثانية بصحته، وكان نص الخبر كالآتي: "على مدى عقود ظلت الفلسفة تتربع على هرم المحظورات في السعودية، فلم تكن العقلانية أو التساؤلات الوجودية مفردتين محبّبتين لدى الوجدان السعودي، لما تحملهما من رفض ضمني أو اعتراض سلمي على البديهيات التي يُروَّج لها، ورغم ذلك فإن بعض الجامعات ومدارس المرحلة الثانوية شهدت تمرد طلاب وطالبات على المنظور الاجتماعي والديني الذي ينبذ الفلسفة بصفتها خروجا عن المبادئ والقيم الدينية، قبل أن تقرر وزارة التعليم إدراجها في المناهج، في اعتراف قطعي بالقيمة الفكرية التي يحظى بها العقل القارئ للفلسفة، ولم يقف الحراك الثقافي داخل الملتقيات الفلسفية المتخصصة، وفي أسوار الجامعات، وأروقة المدارس الثانوية في السعودية عند إطار التلقي الضيق، بل تجاوزه إلى فضاءات الإنتاج المعرفي، إذ قاد شغف المطالعة واقتناء الكتب ومشاركة العلوم هؤلاء القراء والقارئات إلى تكوين مجموعات صغيرة تحتضن همومهم الوجودية الكبرى، وتلبي عطشهم الفكري في مساحات حرة، وتحت وطأة قيود أخف، حتى أنهم صقلوا تجاربهم في المرحلة الجامعية فاتجهوا إلى النشر والتأليف، وحققوا نجاحات مبهرة على المستوى المحلي والعربي".
وهنا ثار بداخلي تساؤل، هل هذه الدولة هي الدولة الإسلامية التي تحمل على أرضها الكعبة المشرفة قبلة المسلمين، وتحمل أيضاً المقصورة الشريفة (الحجرة النبوية الشريفة) رزقنا الله وإياكم زيارتها؟ وكان سبب سؤالي تقرير المولى عز وجل في كتابة الجليل، بضرورة الفهم، وإمعان النظر، والتدبر، والتفكير، وإعمال العقل، وغيرها من التفسيرات التي حثنا عليها القرآن الكريم، وأكدها لنا رسولنا الكريم – سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم – في مُجمل أحاديثه.
على العكس من ذلك، ذكرني هذا بما قرأته في مطلع هذا العام على موقع جريدة (إيلاف) الإلكترونية الصادرة عن لندن: "قبل سنوات دعت السلطات الإيرانية الفيلسوف الألماني الكبير هابرماس إلى طهران، فالتقى برجال الدين المقربين من النظام الحاكم، وبعد رجوعه كتب مقالاً يستغرب فيه من شيوع الفلسفة وانتشارها في المراكز الدينية الرسمية دون أن يكون لها أي تأثير اجتماعي حقيقي".
وننتهي من هذا كله، إلى نتيجة مهمة مفاداها، أن عصب العملية التربوية وهو المعلم لابد أن يكون كما ذكرنا آنفاً يمتلك الصفات الأربع التي تمكنه من التواصل بشكل مُيسر مع طلابه، لأنه ببساطة شديدة يقوم بتدريس فرع من العلوم الإنسانية شديد الحساسية والانفجار إذا لم يُحسن فهمه وتطبيقه وممارسته كما ينبغي أنّ يكون.
والسؤال الآن، هل الفلسفة تستدعي منا كل هذا المجهود؟
يُجِبنا كارل ياسبرس – أكاديمي في الطب النفسي وأحد فلاسفة ألمانيا في القرن العشرين – قائلاً: "الرأي العام السائد ينظر إلى الفلسفة على أنها نافلة من النوافل، لأنه يرى أن الفلسفة تعمي عن الحاضر وقواه وحركاته، وهو يتساءل: ما فائدة الفلسفة؟ إن الفلسفة لا تعين، فقد كان أفلاطون عاجزاً عن معونة الإغريق، ولم ينقذهم من التردي إلى أسفل، بل لقد عاون في الواقع على انهيارهم".
إلا أننا نجد من جانبنا أن كل استنكار للفلسفة يصدر عن شيء خارج عن الفلسفة، غير أن الجهد الفلسفي شيء لا يراه كل أولئك الذين ينبذون الفلسفة، ففي الفلسفة يعيد الإنسان الكشف عن مصدره الأول. والفلسفة – بهذا المعنى – مطلقة لا تهدف إلى غرض.
عزيزي القارئ، الفلسفة لا يمكن أن تتوقف ما دام الإنسان حياً، فالفلسفة تؤيد الأمل في إدراك معنى الحياة الذي يتجاوز كل الأغراض الدنيوية، وهدف الفلسفة هو أن تُحقق في كل الأزمان "استقلال" الإنسان كفرد وهو يُكتسب، إلا أنه لا يكتسب هذا الاستقلال إلا بإيجاد علاقة بينه وبين الوجود.
وهنا نضع أيدينا على إحدى دعاوى غير الناطقين بالفلسفة وهي "التناقض" وأن مهمة الفلسفة تتسم دائماً بهذا، إلا أن الاستقلال الي نقصده لا يلتمس في البعد عن العالم، وفي نبذه واعتزاله، بل يلتمس في الدنيا ذاتها، وفي خلالها والإسهام فيها، ولكن دون الخضوع لها، ومن ثم فإن الفيلسوف الذي لا يحب لنفسه الحرية إلا إذا توافرت لغيره، ولا يحب لنفسه الحياة إلا باتصاله بغيره من الناس. إن الفلسفة تخاطب الفرد، وفي كل عالم، وكل موقف، يرد الاجتهاد الفلسفي الفرد إلى نفسه، لأن الفرد الذي يكون نفسه – ويستطيع أن يبرهن على ذاته في عزلته – هو وحده الذي يستطيع حقاً أن يشرع في الاتصال بغيره.
ولنختم مقالنا بما قاله الأكاديمي الفرنسي بيير هادو وهو أحد رجالات الفلسفة العظام: "الفلسفة ليست تعلم نظرية مُجردة، وهي أبعد ما تكون عن عملية تفسير نصوص. إنما الفلسفة هي فن العيش، الفلسفة موقف عياني وأسلوب محدد في الحياة يشمل الوجود بكليته. الفعل الفلسفي ليس واقعاً على المستوى المعرفي وحده، بل على مستوى الذات ومستوى الوجود. إنه تقدم يؤدي بنا إلى أن "نوجد" وجوداً أكثر امتلاءً وأن يجعلنا أفضل حالاً. إنه تحول وجودي حاسم يقلب حياتنا كلها رأساً على عقب، مغيرة حياة الشخص الذي يخوض فيه، الفعل الفلسفي يرفع الفرد منا من حالة حياتية غير أصلية، وغيبوبة معتمة، وهم مُنغص – إلى حالة حياتية أصلية يمتلك فيها المرء الوعي الذاتي والرؤية الدقيقة للعلم، والسلام الداخلي والحرية".
واخيراً، نجد أن معظم المشكلات التي تواجهنا اليوم في حياتنا فصل العاطفة عن العقل، كثيرا منا يُغلب عاطفة على عقله، أي يتبع هوى القلب على ما يمليه عليه عقله.
قياس الأمور بالعقل هو أمثل قياس وهو ما يصل بنا إلى نتائج عظيمة، فما بلك وما ظنك عزيزي القارئ، أن الفلسفة تستطيع أن تأخذ بأيدينا فيما يواجهنا من منعطفات الحياة المختلفة، ولكن شرط هذا أن نستخدم عقلنا في التفكير فلسفياً، ولكن السؤال الذي يظهر أمامنا الآن، هل يمكن أن يتشابه الرأيان، أو كيف يمكننا أن نُفرق بين هوى القلب وما يمليه علينا العقل؟ سيكون هذا هو موضوع مقالنا.