الخميس 25 ابريل 2024

الحق.. والحقيقة

مقالات10-8-2022 | 18:12

بعض الناس يقضي عمره كله معتقدًا أنه على صواب في كل شيء، وإنه سلك السلوك الأقوم في كل مناحي حياته، وإن كل من لا يرى رأيه، أو ينكر مسلكه، أو يعتنق أفكارًا غير ما يعتنق، لهو في ضلال مبين، إن مثل ذلك الصنف من البشر يعيش متوهمًا إنه هو الذي يملك الحق والحقيقة، فإذا كان يؤمن بدين معين، فإنه يدهش إن وجد أشخاصًا لا يؤمنون بما يؤمن هو به؛ غافلًا عن أنه لو كان قد نشأ في بيئة أخرى غير بيئته، لاعتنق ذلك الدين الذي يهاجمه الآن، ودافع عنه وتمسك به بوصفه الدين الحق.

حين يدافع الإنسان عن عقيدة معينة، فإنه يظن إنه إنما يريد بذلك وجه الله أو حب الحق والحقيقة. دون أن يدرك أنه بهذا يخدع نفسه. إنه في الواقع قد أخذ عقيدته من بيئته التي نشأ بها، وهو لو كان قد نشأ في بيئة أخرى لوجدناه يؤمن بعقائد تلك البيئة الأخرى، ويدافع عنها بحماس بالغ، ثم يظن أنه يسعى وراء الحق والحقيقة. (دكتور علي الوردي، مهزلة العقل البشري، دار كوفان، لندن، 1994، ص 41)

لم يبتكر العقل البشري مكيدة أبشع من مكيدة الحق والحقيقة، ولست أجد إنسانًا في هذه الدنيا لا يدعي حب الحق والحقيقة. حتى أولئك الطغاة الذين لطخوا صفحات التاريخ بمظالمهم التي تقشعر من بشاعتها الأبدان، لا تكاد تستمع إلى أقوالهم حتى تجدها تنضح بحب الحق والحقيقة. (المرجع السابق، ص 41)

يقال إن أحد السلاطين المؤمنين بالله ذبح ذات يوم مئة ألف ممن كانوا على عقيدة غير العقيدة التي نشأ هو عليها، ثم جعل من جماجم هؤلاء القتلى منارة عالية صعد عليها مؤذن يصيح بأعلى صوته:

«لا إله إلا الله».

وحدث مثل هذا في العهد العثماني حين جهَّز والي الموصول حملة عسكرية ضد اليزيديين الساكنين في شمال العراق. ذهبت تلك الحملة إلى القرى اليزيدية فقتلت أطفالها واستباحت نساءها وجاءت بالأحياء من رجالها إلى الموصل ليخيروا بين حد السيف أو شهادة «لا إله إلا الله».

وقد فرح الوالي بهذا النصر الذي حققه الله على يديه؛ وخُيِّلَ إليه أن القصور الفخمة تُشَيَّد له في جنة الفردوس جزاء هذه المذبحة الرائعة التي قام بها. (ص ص 41 – 42)

غضب هذا الوالي على أتباع اليزيدية لكونهم يعبدون الشيطان من دون الله. ونسى أنه لو كان نشأ في قرية يزيدية من أبويين يزيديين لكان مثلهم يعبد الشيطان ويترنم بأهازيجه، ويذوب هيامًا به وشوقًا إليه. إنه اعتاد على سب الشيطان واحتقاره لأنه وجد منذ طفولته المبكرة جميع الناس حوله يسبون الشيطان ويحتقرونه. فأخذ يسبه معهم ويتخيله بصورة بشعة ممجوجة. (ص 42)

إن المتدين المؤمن بعقيدة من العقائد لا يستطيع مهما حاول؛ أن يتجرد من عاطفته الدينية، في حين أن من شروط المنهج العلمي الدقيق أن يكون صاحبه متشككًا قبل أن يبدأ بالبحث. ومن هنا يتضح لنا عبث المحاولات التي يبذلها البعض للربط بين الكشوف العلمية الحديثة والدين.

لا لوم على المتدين حين يؤيد عقائده الدينية بشتى الوسائل، لكننا نلومه حين نراه يربط بين الدين والعلم، غافلاً عن اختلاف طبيعة المنهج بينهما. فالدين ينبني على الإيمان المطلق والتسليم بالعقائد الدينية تسليمًا لا يتطرق إليه شك. أما العلم فيستند إلى البحث القائم على الشك والفحص والتحري. إن الربط بين العلم والدين يشكل ضررًا؛ بل يمكننا أن نقول إنه يمثل خطرًا على الدين والعلم معًا. رغم هذه الحقيقة نرى محاولات دَائِبة من البعض للربط بينهما. وهذا عبث ما بعده عبث.

Dr.Randa
Dr.Radwa