انتابتني في الآونة الأخيرة حالة من الدهشة والحيرة بسبب حالات القتل، إثر تلك الخلافات والاختلافات التي تطل بأعناقها مؤخرًا وتنشب بين الشباب والفتايات وما يربط بين كل اثنين من علاقة عاطفية.
وكان هناك سؤال يغلف تلك الحيرة:
هل مَن يحب يمكنه أن يقتل؟!
والإجابة المنطقية والعقلية والعاطفية هي: لا والله.
إذن ما الدوافع وراء تلك الجرائم البشعة التي ليس لها أي مُسوِّغ أو مبرر مهما كان السبب؟!، أرى أنه من بين تلك الدوافع ما يعرف بسيكوباتية المشاعر تلك الحالة التي تتكون بذورها الأولى في الأسرة، تلك الأسرة التي غفلت-لأسباب مختلفة- عن التوعية والاحتضان والاحتواء، فعندما ينشأ شاب في مثل تلك الظروف وينطلق في مجتمع طبيعي يسمح بالزمالة الطبيعية بين شاب وفتاة، ثم تتحول تلك الزمالة رويدًا رويدًا إلى علاقة حب، فهنا تنمو عند ذلك الشاب مشاعر الامتلاك ويجد نفسه محاطًا بهالة من الاهتمام والاحتضان المفتقد، وما إن تبدأ تلك الحالة أو الهالة الاهتمامية في التلاشي بسبب اختلاف تفكير الفتاة أو نضجها وخاصة مع تقدم العمر في المرحلة الجامعية، فمبجرد بزوغ علامات الانسحاب من تلك العلاقة - في الأفق- تبدأ في الوقت نفسه حالة من توهج مشاعر الانتقام لدى الشاب؛ لأنه يرى أن ما يمتلكه- بغير حق- سيذهب سُدى أدراج الرياح ولسوف يتبخر، وأن من كان بمثابة ملاذه الآمن، ومن كان يحتضنه عاطفيا ويحتويه سيغيب ويختفي ويتحول إلى سراب، فيبدأ في بذل محاولات مضنية من أجل أن يُبقى الشاب نفسه حيًا، لأن الحب في نظره وعلاقته بمن يحب بمثابة طوق نجاته في هذه الحياة، متناسبًا في الوقت ذاته حق الطرف الآخر من العلاقة في الحياة كذلك، فيعطي نفسه الحق بأن يتصرف فيما يملك-ظنا من منظوره- بأن يعاقبها بالقتل، وهو يعلم علم اليقين أن يقتل نفسه وذاته، وهنا يدفع حياته ثمنًا مقابل ذلك الحرمان العاطفي المنتظر، وفي النهاية هذا ليس حبًا بل إنه عبث بأقدار الناس وحيواتهم.
ولا أظن أن من يرتكب مثل هذه الجرائم البشعة بغافل عما سوف يؤول إليه مصيره في نهاية المطاف، وتلك هي الطامة الكبرى، أن يدفع شاب صغير السن حياته ثمنًا للعبث، وثمنًا لغياب الاحتضان وثمنًا لانطفاء دور الأسرة، وثمنًا لاندثار القدوة، وثمنًا للفهم الخطأ بأن الحب فقط هو دقة قلب، وثمنًا لتغوُّل الدراما الدامية التي ليس لها حاكمًا ولا رادعًا، وثمنًا للأخبار الكاذبة، وثمنًا لضبابية الرأي، وثمنًا للجهل بأن الحب يعني الحياة وليس الموت.
وفي نهاية المآل هي ماتت وهو مات، ولم يبق من الحب الحقيقي شيء يُذكر.
وختاما أقول: أعيدوا إلينا حياة شبابنا، أعيدوا إلينا مستقبلهم الذي أغلق أبوابه قبل أن يطرقوه، أعيدوا إلينا أرواحنا التي نزهقها بأيدينا، أعيدوا إلينا حياتنا، أعيدونا إلينا قبل أن نموت، ونحن- بين الناس- أحياء.
د. نور عابدين
أستاذ النقد الأدبي والبلاغة المساعد بكلية الآداب، جامعة الإسكندرية