أعشق ثقافة الصور وتسجيل الأحداث واللحظات المنتقاة بدافع التوثيق وصناعة الذكريات، هي هواية محببة لأبي عزيز قلبي رحمه الله، مارسناها لسنوات كأسرة وأورثها لي منذ طفولتي، فأنا التلميذة المفضلة له لتعليمها كل خلاصات خبراته ومهاراته الحياتية، حتى الحرفية في البيت، لتعليمي قيم الاعتماد على النفس قدر المستطاع.
كانت أول مقتنياتنا الثمينة لكاميرا الفيديو هي ماركة JVC اليابانية كانت عبارة عن قطعتين قطعة منهم هي فيديو محمول على الكتف يوضع به شريط الـ VHS، والقطعة الأخرى هي الكاميرا ذاتها، اشتراها والدي خلال فترة تواجدنا في الاتحاد السوفيتي السابق خلال أواسط الثمانينات، وَثّقنا بها ثلاثة سنوات من عمر الذكريات الثمينة، ذكرياتنا في أوقات الثلج الصعبة، نزهاتنا الأسبوعية لمشاهدة باليه فرقة البولشوي الشهيرة وغيرها، والسيرك الروسي الفريد من نوعه، وسهرات رأس السنة في "كوزموس" أفخم فنادق العاصمة موسكو آنذاك، حتى زيارات خالتي وبناتها ونزهات الثلج المعتادة كل لحظاتها كانت موثقة ومازلنا نحتفظ بالأشرطة التي تحوي أثمن ذكرياتنا.
حتى أن والدي ابتاع حاملاً للكاميرا خاصته حتى يتمكن من تصوير جلسة شهرية عائلية لنا بالمنزل، نقوم فيها بتسجيل كلمات الاشتياق والحنين لكل أحبائنا في مصر واطلاعهم على كافة أخبارنا وسؤالهم عن كل أخبارهم، ثم إرسال نسخة من هذا الشريط إلى الآباء والأخوة بشكل خاص حتى يتسنَ للجميع الاطمئنان بشكل مرئي يُهَوّن بعضاً من آلام البعاد والاشتياق إلى اللقاء والتجمع الأسري.
تلك المشاعر التي أسردها وكأنني أراها كشريط ذكريات يمتد أمام عيني، ويقتلني فيه الحنين إلى أيام يصعب نسيانها بذاكرة الأطفال الحديدية، هي نفسها التي جعلها أبي في تصنيف ذاكرة الأسر الفولاذية، حتى أن كلا العائلتين من ناحية أبي ومن ناحية أمي يعلمون جيداً تلك الهواية الغالية، كيف لا والجميع مشمول في معظم التسجيلات التي نَحِنُّ لها جميعاً ومازلنا نتناول الحديث عنها كلما أكرمنا الزمان بلقاءات أسرية حميمة.
تلك الذكريات التي أثُمِنُها بأغلى الكلمات، هي أغلى ما ترك لي والدي بخلاف سيرته ومسيرته النقية، أتذكرها وأحتضنها بكل ما أوتيت من حنين واشتياق ولهفة لكل ما كان من صنع أيديه مهما صغر حجمه وزاد عمق تأثيره، ولم نأخذه بمحمل الاستيعاب أو التركيز وقتها بخلاف كونها مجرد بدعة جديدة لطيفة وكأنها لعبة، لم نعلم أنها ستكون هي المادة الخام لتأريخ حياتنا كأسرة صغيرة، وأسرة كبيرة من أبناء خالات وأعمام وأجداد وأصدقاء وجيران وغيرهم.
حتى أنه كان من بين تفاصيل تلك الهواية الغالية على قلب والدي الذي هو قلبي بالتبعية، أنه كان دائم الحرص على تصوير كبار السن في العائلات والاسترسال في الحديث معهم واستخراج كل المشاعر الدافئة منهم، حتى ما إذا فارق أحدهم دنيانا المؤقتة، أهدى شريط الذكريات إلى الأبناء، وللعقل أن يتخيل وقع الفعل في النفوس.. أتعجب لحجم الرقة والعذوبة والحنو الذين تملكوا من قلب هذا الرجل أبي العظيم، الذي هو أبعد من مجرد الفهم البشري العادي!!
كان إلى جانب هذا، هوايته الأخرى بالتصوير الفوري، فكنا من أوائل الأسر بمحيط الأسرة الكبيرة والمعارف التي تمتلك كاميرا فيديو وكاميرا فورية يمكن أن ترى مخرجها النهائي في لحظات معدودة، وَثّق بها كل أعياد ميلادنا في روسيا ومرات سفراتنا في الجنوب الروسي قبيل الانهيار وباقي الشرق الأوروبي، نحتفظ بكل تلك الذكريات في ألبومات متعددة تكاد تنطق بالمشاعر قبل التواريخ.
وتوالت محبته للتوثيق في تحديث منظومة التصوير المنزلية خاصتنا، فابتاع الكاميرا الموحدة المحمولة على الكتف كتلك التي كانت تستخدم في الأفراح، وأيضاً كاميرا اليد المسماة بالـ Beta Cam، وصولاً إلى الكاميرا الديجيتال بكل تحديثاتها، وهي آخر استخداماتنا خلال فترات تواجدنا بالأراضي الألمانية لسنوات، قام هو وأمي بتسجيل العديد من التفاصيل، ثم سرقها أحد المواطنين الأتراك من السيارة خلال فحصها بهدف شرائها قبل عودتهما النهائية إلى الوطن، في نفس التوقيت الذي سُرِقَت فيها كاميرتي أنا الأخرى في مصر بعد عودتي من ماليزيا بأسبوع واحد شاملة ذكريات شهر بأكمله حملت فيه الكثير من التفاصيل، وذهبت إلى حيث اللارجعة.
تلك المحطات التي حاولت فيها جاهدة سرد تفاصيل وحكايات أصعب من أن تقال في كلمات وسطور دون لسان ناطق، وعين دامعة، وقلب يهتز، وروح تئن، ستظل كلمات صامتة عاجزة ساكنة محلها، لن تستطيع بالتعبير عبور حدود الزمان إلى الخلف إلا كذكرى، أو إلى الأمام إلا بالتضرع إلى الله أو التمني وتوقع الخير.
اصنعوا ذكرياتكم قبل أن يمر العمر، لا تضعوها صوراً على كعكات أعياد الميلاد ثم تقطعونها بأيديكم، فتنقطع الذكرى ونأكلها قطعاً قد تبدو لوهلة كحلوى، ولا نعلم أنها نحن.. نأكل أنفسنا، ثم نتساءل أين هي الذكريات؟!