السبت 23 نوفمبر 2024

مقالات

صندوق المشاعر المسمى بالمطار

  • 19-9-2022 | 00:00
طباعة

اعتدت الحكمة والرصانة في كل قرارات والدي -رحمات الله عليه وغفرانه- في كل الأوقات والمواقف، قصير المدى وبعيده، اليومي المعتاد والمفاجيء الصادم، فقد كان لاختياره سكناً لنا في حي مصر الجديدة منذ أواخر سبعينات القرن الماضي عدة أسباب، أهمها على الإطلاق لكونه الأقرب للمطار بالنظر إلى تكرار سفراتنا للخارج، والتي كانت أحيانا تتصادف إلى وجهات بعيدة المسافة وتستلزم ساعات طويلة من الطيران.

لذلك، فذاكرتي عامرة بل ومكتظة بمشاهد وأوجه متعددة للمطار، بدءً من مشاهد صالات المطار القديم مروراً بصالة 3 ووصولاً للمطار الجديدة على وضعيته الحالية، التي آلت إلى انتظار أهالي المسافرين خارج صالات الوصول في العراء صيفاً وشتاءً لأوقات قد تمتد لساعات طويلة دون مقاعد أو سبل راحة أخرى، ولا يزال الأمر لا تفسير له ولا مبرر.

على كل، فإن فكرة السفر في حد ذاتها تستهويني إلى درجة كبيرة بالشكل الذي قد يجعلني أنفق كامل مدخراتي على سفرة واحدة أتجول فيها من مكان لآخر، ومن مدينة إلى أخرى سواء داخل نفس الدولة أو دول مجاورة، الأهم أن أحصل على أكبر كم من الذكريات وفقاً لخبرتي بالمكان بالتجربة الشخصية لا المنقولة لي من آخرين.

لكن حديثي هنا على فكرة فوضى مشاعر المطارات، سواء كنت مُستَقبِلة لعائدين أو مُوَدِعة لهم، أو كنت أنا المسافرة التي حان وقت طائرتها، تلك المشاعر التي غزت روحي وتعاملت معي معاملة المحتل الذي يستهزأ بالأرض المُستَعمَرَة، لا يمكن أبداً أن أنساها أو أغفلها لأنها مستمرة بطبيعة الحال، فحياة أسرتي الصغيرة والكبيرة وحتى طبيعة عملي تستلزم السفر لمرات ومرات، وهو الأمر الذي جعل من أرض المطار بمثابة أرض المعركة التي كنت أنتصر فيها أحياناً وأعود في أحضان العائدين، وأحياناً أخرى تنتهي المعركة بهزيمتي بعد تمام توديعي لأحباء القلب.

وبرغم أن الجانب الآخر من الأمر كان مثيراً للأمل نوعاً، وأنت تعلم أن لكل مغادرة عودة، ولكل توديع استقبال، لكنها قد تكون طبيعة الحياة التي تجعل من أوقات الحزن والانتظار المُر والاشتياق أكثر طولاً وتأثيراً فلا تختفي بمرور الوقت، بعكس أوقات الفرح تمر سريعة كمرور السيارات على الطرق المفتوحة فلا تشعر بلذتها الفعلية إلا للحظات.

لا أعلم كيف يكون الترياق الحقيقي لعلاج مرض ذاكرة المطارات، وحمى الحقائب المسافرة، ورعشة التوديع، وآلام ما بعد العودة منفردين، وسكون البيوت، لكم أتمنى أن تُلغىَ كل الرحلات المطولة، وتبقى فكرة السفر على إطلاقها فقط شريطة أن تكون قصيرة الأمد، ولا مكان فيها لصالات مغادرة وتوديع، فقط اتركوا لنا صالات الاستقبال.

 

الاكثر قراءة