السبت 20 ابريل 2024

فلسفة.. الفن والجمال

مقالات27-9-2022 | 11:53

لو أنك سألت شخصا عاديًا: ما هو الفن؟ لأجابك: إن الفن هو الغناء، والسينما، والمسرح، والموسيقي ... إلخ، ولو أنك تصفحت إحدى المجلات الفنية المتداولة بين أيدينا في مصر، لوجدت أنها لا تكاد تتجاوز الحديث عن الممثلين والمخرجين وأبطال السينما ونجوم الغناء والرقص، حتى لقد أصبح لفظ "الفنان" عندنا قاصرًا على محترف التمثيل أو الغناء أو الرقص.

ولكن ما هو الفن؟ سؤال قد يطرح نفسه على الباحثين والدارسين في ميادين علم الجمال والفلسفة، والدراسات الأدبية والنقدية، وقد يتداعى إلى أذهان الشعراء والكتاب والفنانين أنفسهم تشكيليين كانوا أم تعبيريين؛ فالصعوبة في تحديد مفهوم الفن ناشئة من أننا أمام وجه (موضوع) لا يخضع للأحكام المُطلقة.

ومع ذلك فقد يعجبنا أحيانًا بعض المقولات التي تصدر عن الفنانين في تناولهم لماهية الفن، فأحياناً نسمع او نقرأ مثلاً: "الفن هو إدراك عاطفي للحقيقة أو هو زجاجة الوسكي التي قدمها لك الفنان لتنقلك إلى عوالم من النشوة والانبهار".

إن هذه المقولات السابقة أشبه بصور الفن التي تنطلق من الفنان بطريقة تلقائية أو نصف واعية، فتلك هي مهمة الفنان الذي يكثف تجربة في كلمة، أو يختصر لك البحر في قطرة، أو يرمز للغابة بشجرة. ولكن مهمة فيلسوف الفن هي تحويل تلك المعرفة التجريبية التي يمتلكها الفنان أو المبدع إلى معرفة نظرية.

عزيزي القارئ، إذا صح أن الفن قد صاحب الإنسان منذ وجوده على هذه الأرض إلا أن فلسفة الفن والجمال لم توجد إلا مع نشأة الفلسفة أي مع أعلامها قدماء اليونان. والسؤال الآن، هل هناك علم يستطيع أن يدرس الفن؟ أو بعبارة أخرى، هل لدينا علم يستطيع ان يعطينا أجوبة أو تفسيرات عما يظهر امامنا من مشكلات تتعلق بالأعمال الفنية؟ مفتاح هذه الإجابة يعطينا إياه "علم الجمال".

علم الجمال هو أصغر أبناء الفلسفة، اذ أنه أحتفل منذ عهد قريب جدًا بعيد ميلاده المائتين بوصفه فردًا معترفًا به في الأسرة الفلسفية. ففي نصف القرن الثامن عشر، كان كثير من المفكرين يشيرون إلى مشكلة الفن وطبيعة الجمال، لكن القليلين جدًا منهم هم الذين تعمقوا بالفعل في المسائل الأساسية، فكان أفلاطون وأرسطو من المهتمين، بل وأثار أسئلة حول طبيعة الفن. ومع ذلك فإن الوعي الجمالي كما نفهمه اليوم لم يكن له وجود تقريبًا في ذلك الوقت.

ويمكننا الآن أن نُعرف علم الجمال بشكل مبسط على الشكل الآتي: (علم الجمال) هو العلم الذي يبحث في شروط الجمال وقياسه ونظرياته وفي الذوق الفني وفي احكام القيم المتعلقة بالآثار الفنية وهو باب من الفلسفة.

بمعني أن علم الجمال أو (الأستطيقا) هو القادر على ان ينقل لك المعرفة الكامنة الباطنة في النشاط الفني إلي دائرة الوعي او الشعور، ومن هنا فإن علم الجمال (الأستطيقا) بمثابة العلم النظري من العلم التطبيقي المقابل له. أي أنه دراسة مفهوم الجمال يحتاج منا أن ندرس مجمل العلاقات الاجتماعية الثقافية التي ولدت نتيجة التطور الاجتماعي التاريخي لذلك المجتمع.

أما إذا ما اتجهنا إلى موضوع علم الجمال فهو الجميل في الفن الذي يبدعه الإنسان، ولهذا يمكن أن يسمي هذا العلم باسم "فلسفة الفن"، أو على نحو أدق: "فلسفة الفنون الجميلة".

عزيزي القارئ، إذا وصلنا إلي النصف الأخير من القرن الثامن عشر نجد أن فلسفة الجمال أستقلت وأصبحت فرعًا من فروع الفلسفة. وقد وضح ذلك الفيلسوف الألماني "باومجارتن" عندما عرف هذا النوع باسم الأستطيقا Aesthetics وحدد موضوعه في تلك الدراسات التي تدور حول منطق الشعور والخيال الفني وهو منطق يختلف كل الاختلاف عن منطق العلم والتفكير العقلي. وليس معني ذلك أن مشكلات علم الجمال لم تدرس قبل ذلك التاريخ، فالتفكير الفلسفي الذي عنى بتعريف الجمال والفنون الجميلة كان موجودًا منذ عصر سقراط وحتى قبله في اليونان، وتعني فلسفة الجمال بنظريات الفلاسفة وآرائهم في إحساس الإنسان بالجمال وحكمه به وإبداعه في الفنون الجميلة، بل وتتميز فلسفة الجمال بأنها لا تتناول آثار ماضية بقدر ما تتناول العوامل والمؤثرات المكونة للوعي الجمالي عند الإنسان.

صفوة القول، أبدع الإنسان الآثار الجميلة قبل أن يفلسف موضعها ثم عرض للبحث فيها بالنظر العقلي ومناهجه فكانت (فلسفة الجمال) واصطنع المناهج التجريبية في دراستها فكان (علم الجمال). إذن علم الجمال قديم ومحدث في آن واحد، فهو قديم كأفكار جمالية، ولكنه محدث كعلم. والسؤال الذي يفرض نفس علينا الآن، هل هناك علاقة بين الفن الجمال؟

يُعدُّ الفن واحدًا من المجالات التي يسيطر الجمال عليها، ويظهر من خلالها، ولكن الفن ليس هو الجمال، إذ قد يوجد الفن ولا يوجد الجمال فيه، إما لطبيعة ذلك العمل الفني الذي ربما كان تصويرًا للقبح، وإما لأن الفنان قد غلب عليه الجانب الفني.. فلم يأبه لمراعاة الجمال. وقد خلط كثير من الكُتَّاب بين الكلمتين، حتى ما يكاد القارئ يلحظ فرقًا في استعمالهما، إن كُتُبًا كثيرة وضعت "الجمال" عنوانًا لها، ولكنك لا تجد فيها غير الحديث عن الفن، وكأنه هو الجمال. وأعتقد أن السبب في هذا، هو ما ذهب إليه بعض الفلاسفة من اعتبار الفنِّ الميدان الوحيد للجمال. وأن "علم الجمال" قاصر على الفن.

وإنه ما من شك في أن الصلة وثيقة بين "الفن" وبين "الجمال" فمن غاية الفن تحقيق الجمال، ولكنه تارة يدرك هذه الغاية وتارة تفوته. والجمال لا يستغني عن الفن كميدان من ميادينه الفسيحة، ولكن لا يستطيع أن يتخلى عن مجالاته الأخرى التي منها الطبيعة والإنسان.

ولما كان علم الجمال او فلسفة الفن فرعًا من الفلسفة، فإن ما قيل عن الفلسفة عامة يصدق علي علم الجمال بدوره. بمعني أن علم الجمال يأخذ على عاتقه القيام باختبار نقدي لاعتقاداتنا المتعلقة بأمور مثل: ما طبيعة الفن الجميل؟ وما الذي يميز الفنان المبدع عن غيره؟ وهناك اسئلة أخري كثيرة.

أي أن علم الجمال يقوم بنقد اعتقاداتنا المتعلقة بالمسائل الفنية. إن علم الجمال إذن هو ذلك التحدي الدائم لمعتقداتنا حيال الفن، بمعني أنه يحتم علينا بحثًا دائمًا عن شواهد جديدة. أضف إلى ذلك، إن علم الجمال هو العلم الوحيد الذي يتصدى لمشكلة القيمة في الفن بينما العلوم الأخرى تهرب أمام هذه المسأَلة الأساسية في الفن.