الثلاثاء 26 نوفمبر 2024

مقالات

التجارة مع الله وليس «بآيات الله»

  • 4-10-2022 | 17:22
طباعة

أتعجب من منهج غالبية الشيوخ على الساحة الحالية داخل وخارج مصر، منهم المُعمم ومنهم من يغازل الشباب بصياغته اللغوية وهيئته الشبابية، شاهدت أكثر من مقطع مصور على «فيسبوك» كمحتوى مقدم من شيوخ ذائعي الشهرة؛ لم يكن هدفهم نشر سماحة الإسلام وتعاليمه الأخلاقية قدر اهتمامهم بتوجيه المشاهد لعدد معين من التسبيحات والركعات، مع اختصاص آية أو سورة معينة في القرآن الكريم ومطالبة المتابع بترديدها أكثر من ألف مرة يوميًا، مع وعد يقيني بهبوط ثروة من السماء عليه بعد أربعين يوما!، كما يَعد الشيخ المتابعات بالزوج الصالح أو بنطفة الحمل المتأخر!؛ وهو ما آثار انتباهي واستنكاري لكونه متاجرة صريحة بالدين، وتضليل مِن مَن صُنفوا شيوخًا تحت مظلة استغلال ضيق رزق المؤمن وقوة صبره على الابتلاء من أجل تحقيق شهرة واسعة ومشاهدات أوسع على السوشيال ميديا.

وبالنظر على مدار التاريخ البشري، نجد الأديان كلها وقد تعرضت للاستغلال والتوظيف المصلحي، الذي يستغل حاجات الناس الروحية، ويوجه ضمائرهم الدينية ويستثمر قيمهم المقدسة لمصالح ذاتية ومآرب دنيوية خالصة.

وتخضع هذه التجارة في كثير من الأحيان لما تخضع له الظواهر الاقتصادية من قوانين ونواميس، كقوانين العرض والطلب والاحتكار والمنافسة وغيرها، وهي لا تتورع أبداً عن تزييف الدِّين وافتعال القصص وبث الخرافات ونشر الأساطير التي تضاعف مكاسبها وتعظم عوائدها.

هذه الظاهرة ذكرت في القرآن الكريم، عند الأمم السابقة فقال تعالى: "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ".

 في مقابل هذه الفئة، فئة أخرى تأبى المتاجرة بالدِّين وتمتنع عن بيع قيمها واستغلال مبادئها لمصالح ذاتية دنيوية ضيقة، فقال تعالى: ”وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ”.

وحذر القرآن الكريم المسلمين من أن يكونوا كالفريق الأول فقال تعالى: ”إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ”، وقال تعالى: ”وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ”.

أسوأ ما في هذه التجارة أنها تفقد الناس ثقتهم بدينهم وتزعزع إيمانهم به، وتحطم المقدسات في نفوسهم وضمائرهم، وتخرج الدِّين عن وظائفه الحقيقية، وتعمل على إشغال الناس بتفاهات الأمور وسفاسفها.

التجارة بالدين تجارة رائجة مربحة فهي قليلة التكاليف مضمونة الأرباح سهلة الرواج عديمة المنافسة، تنمو وتزدهر بزيادة الجهل، أربابها أشخاص متواضعو القدرات محدودو الإمكانيات والمواهب، يتملكون مخزونا لغويًا جيدًا، وأسلوبًا قادرًا على دغدغة عواطف الناس وتحريكها.

وقد استطاع البعض بتدينه الزائف وتصوفه الفارغ ومظاهره الدينية الخداعة، من أن يحقق من المكاسب الدنيوية والمكانة الاجتماعية ما عجزت عنه همم المبدعين  وإنجازات العلماء المتميزين.

لا سبيل للقضاء على هذه التجارة التي لا تقل ضرراً وخطراً عن تجارة المخدرات، إلا بالوعي السليم والسلوك الرشيد للمتدينين، والعمل على تقليل الوسائط بين الخالق والمخلوق؛ امتثالاً لقوله تعالى:” وإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ” فكلما ضاقت هذه الوسائط كلما قلت هذه التجارة، فهذه الوسائط هي علامتهم التجارية المميزة التي سلطتهم على ضمائر الناس ومكنتهم من السيطرة عليهم وجعلتهم خاضعين لهم مستسلمين لسلطانهم.

والسؤال هل مطلوب منا أن نسىء الظن في كل من عمل عملًا ظاهره الصلاح ونقول أنه إنما يتاجر به وأن له أغراض خبيثة من ورائه أو يبتغي به أهدافًا عاجلة ومآرب دنيوية قاصرة؟!؛ الحقيقة أن هذا من أبشع الظلم وأشنعه، ويُعد من الرجم بالغيب إن أطلق هكذا بغير دليل ثابت وقرائن واضحة، لذا نحتاج لاعمال العقل والإدراك وتوقع حسن النية إلى أن يثبت العكس ؛فهذا هو العدل الرباني والقسطاس القرآني المستقيم؛ كما أن هناك من هم بالدين متاجرين فهناك من لا يقبل ذلك ولا يشتري بآيات الله ثمنًا قليلًا؛ هم أيضًا يتجارون لكن تجارتهم مختلفة، إنها تجارة مع الله تجارة لن تبور. {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}، هؤلاء موجودون وكذلك الآخرون المنتفعون المستغلون؛ لا ينفي وجود هؤلاء ولا يُساء الظن دومًا بأولئك، فقط يتبين المرء ويحذر من تجارة الدين والمتاجرين بالدين ؛ فلا وساطة ولا كهنوت في الإسلام.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة