الأحد 28 ابريل 2024

نهج البردة لميخائيل ويردي : معارضة شعرية ذات طابع فريد

رشيد سليم الخوري

تحقيقات5-10-2022 | 22:40

الدكتور عصمت رضوان

مما لا شك فيه أن شخصية النبي (صلى الله عليه وسلم) شغلت فكر ووجدان البشر جميعا، منذ زمانه عليه الصلاة والسلام إلى يوم الناس هذا.

 

     لقد رأى الناس في الشخصية المحمدية النموذج الأمثل للإنسان الكامل في صفاته وأخلاقه، في سلوكه ومعاملاته، في رأفته ورحمته، في عطفه وإنسانيته.

 

      في كتابه "العظماء مائة وأعظمهم محمد" يؤكّد الكاتب الأمريكي مايكل هارت؛ أن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحاً مطلقاً على المستويين الديني والدنيوي، ولهذا السبب وضعه على رأس قائمة العظماء في تاريخ الإنسانية.

 

  يقول مايكل هارت: "لقد اخترت محمداً -صلى الله عليه وسلم- في أول هذه القائمة، ولابد أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار، ومعهم الحق في ذلك، ولكن محمداً -صلى الله عليه وسلم- هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحاً مطلقاً على المستويين الديني والدنيوي.. وهو قد دعا إلى الإسلام ونشره كواحد من أعظم الديانات، وأصبح قائداً سياسياً وعسكرياً ودينياً، حتى بعد ثلاثة عشر قرناً من وفاته، فإن أثر محمد -صلى الله عليه وسلم- لا يزال قوياً متجدّداً".

 

وفي الميدان الأدبي كانت شخصية النبي صلى الله عليه وسلم محفزا لوجدان الشعراء والأدباء منذ عصره عليه الصلاة والسلام حتى عصرنا الحاضر. 

فقد رأينا شعراء الصحابة رضوان الله عليهم، ودفاعهم عن النبي الكريم،  وتسجيلهم لانتصاراته، وإشادتهم بكريم صفاته.

ورأينا شعراء المديح النبوي عبر  العصور الأدبية المتلاحقة، وكيف عبروا من خلال الشعر عن جوانب الكمال البشري في الشخصية المحمدية في دواوين وقصائد تستعصي على الحصر والاستقصاء.

ولم يكن الإعجاب بالشخصية المحمدية  مقصورا على الشعراء المسلمين وحدهم، بل رأينا من الشعراء المسيحيين من يسجل إعجابه بشخصية النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ويشيد بأخلاقه السمحة، ومناقبه الجمة، لم يمنعه اختلاف العقيدة من إنصاف النبي الكريم، وتسجيل الإعجاب به وبأخلاقه في قصائد خلدها السجل الأدبي، لتكون أكبر دليل على السمو الروحي للشعراء، والرقي الفكري والإنساني لهم.

إنها روح التسامح، والحب الأخوي، ذلك الحب الذي دفع هؤلاء الشعراء المسيحيين يمدحون النبي الكريم صلى الله عليه وسلم،  وهذا ما أكده الشاعر القروي رشيد سليم الخوري في قوله عن النبي صلى الله عليه وسلم:

 

يا فاتح الأرض ميداناً لدولته

صارت بلادُك ميداناً لكل قوي

 

يا قومُ هذا مسيحي يذكّركم

لا يُنهِض الشرقَ إلا حبُّنا الأخوي

 

فإن ذكرتم رسول الله تكرمة

فبلّغوه سلام الشاعر القروي

 

ومن أشهر الشعراء المسيحيين الذين مدحوا النبي صلى الله عليه وسلم: إلياس قنصل، ورشيد خورى، وعبدالله يوركى، ورياض معلوف، وإلياس فرحات، ومصطفى قرنفلى، وشبلى ملاط، وخليل مطران، وميخائيل ويردي، وجورج سلسلمى، ونيقولا فياض، وجاك شماس وغيرهم.

وتعد قصيدة نهج البردة للشاعر ميخائيل ويردي من أهم القصائد التي كتبها شاعر مسيحي في حب النبي صلى الله عليه وسلم.

وهي معارضة لبردة كعب بن زهير رضي الله عنه .

وقد استهلها بقوله :

 أنوار هادي الورى في كعبة الحرم

 

فاضت على ذكر جيرانٍ بذي سلم

 

أبناء بابل أفنتهم مآثمها

 

وآل فرعون ما شادوا سوى الهرم

 

وتدمرٌ ومغانيها غدت خرباً

 

والذّكر بالخير غير الذّكر بالإرم

 

يا ليت من شيدوها للفناء رأوا

 

عقبى المباني فأغنتهم عن النّدم

 

زالوا وزالت مع الآثار عزتهم

 

فإن تجادل سل التاريخ واحتكم!

لقد ابتدأ الشاعر قصيدته بمديح النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة دون مقدمات، مشيرا إلى بقاء دعوته عليه الصلاة والسلام،  وبلوغها الآفاق.

ويرى الشاعر أن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم جديرة بالخلود في وجدان الناس جميعا إلى يوم القيامة، وذلك لما تحلى به من كريم الصفات وحميد الخلال،  وما كان عليه من عدل في الحكم، ولين في المعاملة: 

 

 والمصطفى خالدٌ في الناس ما بزغت

أمّ النّجوم وممدوحٌ بكلّ فم

 

يا ليت أحلام عمري لم تضع بدداً

 

بحبّ قصر من الأوهام منهدم

 

وليتني لم أهم إلاّ بمن عرفوا

 

برقّة القلب لا بالظّلم والعقم

 

فكم حبيبٍ إذا خالفت فكرته

 

جازاك بالصدّ قبل البحث في التهم

 

فأربأ بنفسك أن تنهار من ألمٍ

 

وأربأ بحسنك أن يربَدّ من سأم

ويؤكد ( ويردي ) أن سماحة النبي صلى الله عليه وسلم، وعالمية دعوته جعلت القلوب تتعلق به، فهو يدعو إلى الأخوة السمحة، وإلى الأمن والأمان الاجتماعي بين كل شعوب الأرض:

واجعل هواك رسول الله تلق به

 

يوم الحساب شفيعا فائق الكرم

 

هذا رسول الهدى فارشف على ظماء

 

من ورده العذب عطفاً شاق كلّ ظمي

 

كأنّما قلبه ينبوع مرحمةٍ

 

مستبشرٌ جذلان بالنّسم

 

يا أيّها المصطفى الميمون طالعه

 

قد أطلع الله منك النور للظّلم

 

في دينك السمح لا جنسٌ ولا وطنٌ

 

فكل فردٍ أخٌ يشدو على علم

 

وحّدت ربّك لم تشرك به أحداً

 

ولست تسجد بالإغراء للصّنم

 

وكيف تشرك بالرّحمن آلهةً

 

لا يستطيعون ردّ الرّوح للرّمم

 

عاديت أهلك في تحطيم بدعتهم

 

من ينصر الله بالأصنام يصطدم

 

كأنّ ربّك لم يخلق لدولته

 

سواك من مرسلٍ بالحقّ معتصم

 

لقد أدي الرسول الكريم رسالته على الوجه الأكمل، محطما دولة الكفر والطغيان، ناشرا العدل والنور في كل مكان:

 

واجعل هواك رسول الله تلق به

 

يوم الحساب شفيعا فائق الكرم

 

هذا رسول الهدى فارشف على ظماء

 

من ورده العذب عطفاً شاق كلّ ظمي

 

كأنّما قلبه ينبوع مرحمةٍ

 

مستبشرٌ جذلان بالنّسم

 

يا أيّها المصطفى الميمون طالعه

 

قد أطلع الله منك النور للظّلم

 

في دينك السمح لا جنسٌ ولا وطنٌ

 

فكل فردٍ أخٌ يشدو على علم

 

وحّدت ربّك لم تشرك به أحداً

 

ولست تسجد بالإغراء للصّنم

 

وكيف تشرك بالرّحمن آلهةً

 

لا يستطيعون ردّ الرّوح للرّمم

 

عاديت أهلك في تحطيم بدعتهم

 

من ينصر الله بالأصنام يصطدم

 

كأنّ ربّك لم يخلق لدولته

 

سواك من مرسلٍ بالحقّ معتصم

ويشير الشاعر إلى زهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وانتصاره للضعفاء والمساكين، وإرسائه مبدأ المساواة، فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى:

 

يا أزهد النّاس في الدّنيا وفي يده

 

خزائن الملك والأنصار كالخدم

 

لو يتبع الخلق ما خلّدت من سنن

 

لم يفتك الجهل والإعواز بالأمم

 

قد كنت أرأف بالمسكين من دولٍ

 

رأت بأمثاله سرباً من الغنم

 

أحببت دينك لمّا قلت أكرمكم

 

أتقاكم وتركت الحكم للحكم

 

وقلت إني هدىً للعالمين ولم

 

تلجأ إلى العنف بل أقنعت بالكلم

 

والقصيدة طويلة تبلغ مائة وأربعة وعشرين بيتا، ضمنها الشاعر مشاعره الجياشة تجاه رسول الإنسانية صلى الله عليه وسلم.

وعلى كثرة المعارضات الشعرية لقصيدة كعب رضي الله عنه _ تبقى معارضة ميخائيل ويردي معارضة ذات طابع خاص، فهي أول معارضة يبدعها شاعر مسيحي،  يختلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في العقيدة، لم يدفعه إلى مديح النبي صلى الله عليه وسلم سوى الحب لهذه الشخصية المحمدية، وما اشتملت عليه من صفات الكمال البشري والإنساني.

 

إبراهيم غضنفر 

 

Dr.Randa
Dr.Radwa