الثلاثاء 14 مايو 2024

الدكتور عبد الخالق عبد الله: لحظنة السياسية ظاهرة تحدث لأول مرة في التاريخ

الدكتور عبد الخالق عبد الله

عرب وعالم17-10-2022 | 22:07

محمد الحمامصي

هناك مئات وآلاف بل ربما ملايين الكتب التي تروي حكاية السياسة، فمع مطلع كل يوم جديد هناك حكاية جديدة، ورواية أجدد، وفي كل يوم تصدر مئات الكتب عن السياسة بكل اللغات الحية في جميع أنحاء العالم المنشغل بالسياسة أكثر من انشغاله بأي موضوع حياتي أو فكري آخر، شُبعت دراسة وقُتلت بحثا وأُجهدت تفكيرا واستنزفت استنزافا كما تُستنزف أي ظاهرة أخرى في التاريخ، ورغم ذلك مازالت السياسة غامضة كل الغموض للجميع؛ للأفراد ولرجال السياسة والزعماء والعلماء والمحللين والمفكرين، ولكل عابري سبيل.

هذا ما أكد عليه الدكتور عبد الخالق عبد الله في كتابه "حكاية السياسة" الصادر عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية والذي شهد توقيعه في معرض أبوظبي للكتاب في دورته الـ 31، لافتا إلى أن كتابه يسرد حكاية السياسة بعد عولمتها ويحاول فك بعض وليس كل الغموض الأسطوري الذي يحيط بالسياسة. 

الكتاب كما يشير د.عبد الخالق عبد الله الذي يشكل مجمل حصيلة رحلته الفكرية والأكاديمية وخبرة عقد كامل من تدريس مساق واحد هو أصول علم السياسة، وقد استهدف فيه الإجابة على سيل الأسئلة المتدفقة التي تبدأ بأهم وأصعب سؤال عن ماهية السياسة؛ وما معنى السياسة؟ وكيف نعرف السياسة؟ وأين نبحث عنها؟ ولماذا هي زئبقية يصعب القبض عليه؟ ولماذا هي عصية على الفهم وغامضة كل هذا الغموض؟ وكيف يفهمها رجل السياسة؟ وهل يوجد تعريف واحد للسياسة؟ وما أقدم تعريف؟ وكيف يختلف التفسير الفلسفي عن التعريف الواقعي؟ وهل التعريف القانوني أفضل من التعريف العلمي؟ ومتى برزت السياسة؟ وما المراحل التي مرت بها؟ وكيف تبدو اليوم؟ وإلى أين تتجه في المستقبل؟ ولماذا أصبحت أكثر انتشارا وحضورا وتأثيرا في هذا العصر؟ وهل تجوز تسمية هذا العصر "عصر السياسة"؟ وهل أصبحت الحياة المعاصرة مسيسة أكثر مما يتحمل؟ وماذا حدث للسياسة في عصر العولمة؟ وكيف تأثرت بالتحولات الدولية المتلاحقة؟ وهل انتهت بعد هروبها من المحلية إلى العالمية؟.. إلخ.

يرى عبد الله، أن السياسة ليست سلطة ودولة وحكومة وصراعا وتعاونا، ونحو ذلك من المفردات المتداولة أشد التداول بين عامة الناس؛ بل هي "من يحصل على ماذا وكيف؟"؛ فهذا السؤال البسيط كل البساطة، الذي يبدو ساذجا كل السذاجة، يعرّف السياسة ويلخصها بدقة كما لم يلخصها أي تعريف آخر على مدى الـ 2500 سنة من الحديث في السياسة.

ويشير إلى أنه وفق آخر الحكايات الموثوقة بها؛ فإن السياسة غادرت مرحلة المحلية والعالمية، ودخلت عصر العولمة والرقمنة، وعولمة السياسة هي عنوان الفصل الجديد من حكاية السياسة؛ فموجة العولمة تكتسح المجالات الفكرية كافة؛ وتؤثر في كل الجوانب الحياتية، منها السياسة، وكانت حركة عولمة العالم قائمة دائما، وفي كل المراحل التاريخية، بيد أنها اندفعت بقوة في الثلاثين سنة الأخيرة من القرن العشرين، ثم ازدادت اندفاعا مع بداية القرن الجديد، فبرغم أحداث 11 سبتمر العنيفة التي اعتقد البعض أنها وضعت نهاية للعولمة، والتظاهرات الشعبية الاحتجاجية والعنيفة في مدن العالم الكبرى ضد العولمة، خاصة معركة مدينة سياتل الأمريكية عام 1999 والانتقادات الفكرية والأكاديمية المحقة للتداعيات السلبية للعولمة، وأخيرا جائحة كوفيد ـ 19، وبرغم كل هذه التطورات كلها التي أثرت في عولمة العالم، فإن العولمة لم تفقد حيويتها ولم تتراجع ولم تتوقف. ويتصاعد الحديث حاليا عن بلوغ العولمة ذروة جديدة، والسنوات الأخيرة هي الأفضل بالنسبة إلى حركة العولمة. وتشير جميع المؤشرات الاقتصادية والتقنية والاجتماعية والسياسة الحيوية إلى أن حركة العولمة تعمقت وبلغت مستويات غير مسبوقة خاصة بعد انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية لتصبح أكبر المستفيدين والمدافعين عن العولمة.

ويوضح أن العولمة السياسة ترتبط ببروز المجال السياسي العالمي الذي يعني التفكير في العالم، وتخيله وحدة سياسية واحدة. وأكثر ما يشير إليه المجال السياسي العالمي هو أن تقسيم العالم إلى دول وحكومات ووحدات سياسية منعزلة ومجزأة ومنفصلة في طريقه إلى التراجع السريع وربما النهائي. وما يحدث في أرض الواقع هو بروز سياسي جديد يتمحور حول العالم الواحد، وليس حول الدولة ذات السيادة المطلقة والمنغلقة على نفسها، والدولة لم تنته بعد إلا أنها لم تعد وحدها مركز السياسة في عصر عولمة السياسة، كما لم تعد كما كانت في السابق مسئولة مسئولية كاملة عن أفرادها وأمنها وبيئتها، وحتى مصيرها ومستقبلها، وستظل الدولة الوطنية نظريا تدّعي القيام بهذه الوظائف والمسئوليات الحيوية، وستتمسك بمفهوم السيادة المطلقة، ولكن الأمور تتغير سريعا على أرض الواقع، ولن تكون الدولة قادرة في المستقبل القريب على الثبات على هذه الأحقية السيادية، كما كانت تفعل في الثلاثمئة سنة الأخيرة، فالمجال السياسي العالمي يستمد حضوره من بروز مؤسسات وتشريعات وقضايا وأزمات عالمية تتطلب حلولا مشتركة تتخطى الدول الصغيرة والكبيرة وحتى العظمى.

ويؤكد أن جديد حكاية السياسة أنها لم تعد محلية كما كانت دائما، كما لم تعد هناك حدود لقرارات والتشريعات والسياسات التي أخذت تنتقل بيسر ما بعده يسر عبر القارات، وأصبحت البشرية أمام حالة سياسية جديدة هي أن السياسة هنا في هه المنكقة مرتبطة بالسياسة هناك وفي كل المناطق، والسياسة في الشرق مرتبطة بالسياسة في الغرب، والقرار الذي يتخذ في آسيا يجد أصداه في أوروبا، والتشريعات في "واشنطن دي سي" تكون ملزمة كل العواصم في العالم، وشريط صوتي يحمل قناعات شخص معزول في كهوف أفغانستان يثير قلق كبار المسئولين السياسيين والأمنيين في كبرى العواصم العالمية، ومقالة صغيرة من 800 كلمة يكتبها كاتب في صحيفة "نيويورك تايمز" تثير اهتمام أكثر من 70 ألفا من النخبة السياسية الحاكمة في أبعد منطقة في العالم. ومثل هذا الربط للسياسة في كل أرجاء العالم والعمق والكثافة هذين، يحدث لأول مرة في التاريخ؛ ويفتح آفاقا جديدة وغير معهودة في التاريخ السياسي العالمي، كما أنه يفرض وقائع سياسية عالمية جديدة وغير تقليدية تجسد فكرة انكماش العالم الذي هو جوهر العولمة.

ويتابع عبد الله، أنه اتساقا مع هذا التوجه نحو السياسة في كل أرجاء العالم بالسياسة في كل أرجاء العالم يلاحظ دخول البشرية مرحلة ممارسة السياسة عبر منصات الإنترنت، وبروز المجال السياسي الافتراضي الذي أخذ ينافس المجال السياسي الواقعي، والتدفق الحر وغير المقيد للسياسة على الصعيد العالمي، فالقرارات والتشريعات والقناعات والأزمات السياسية ليست ببعضها بعضا فحسب، بل إنها تتدفق بحرية تامة بين المجتمعات والقارات بأقل قدر من القيود، والسياسة في صيغتها الجديدة هي سياسة عابرة للقارات والمحيطات وخارجة عن سيطرة الحكومات، وذلك على نسق الشركات العابرة للقارات التي تدير النظام الاقتصادي بصفته اقتصادا بلا حدود، وأصبحت السياسة تصدّر إلى الخارج كما تصدّر السلع والمنتجات، بل إن ما يتدفق إلى الخارج أكثر كثيرا مما يبقى ضمن الحدود الوطنية. وهذا التدفق الحر لما هو سياسي قريب الشبه بالتدفق في الحر للمعلومات والبيانات الحديث عبر شبكة الإنترنت، وسمحت تقنيات وسائل التواصل الاجتماعي للسياسة أن تتدفق أيضا بالقدر نفسه من الحرية، وتتمدد خارج الدولة، وتتجاوز إطارها الجغرافي ونطاقها المحلي، وتخرج عن سيطرة الحكومات.

ويلفت إلى أن هذا التدفق الحر والعابر للقارات يتزامن مع بروز ظاهرة سياسية جديدة أخرى هي لحظنة السياسية، التي تحدث لأول مرة في التاريخ؛ فالسياسة تتدفق بحرية بيد أنها أيضا تتدفق من موقع إلى آخر بسرعة تقارب سرعة الضوء، وسرعة تدفق السياسة هي بالأهمية نفسها لحرية تدفقها على الصعيد العالمي.

وعندما تتدفق السياسة بسرعة الضوء تكون قد دخلت مرحلة اللحظنة؛ التي تعني أن الحدث السياسي الذي يحدث في طرف الكرة الأرضية يمكن مشاهدته ومعايشته والتفاعل معه بالتفصيل الدقيق في لحظة حدوثه نفسها في الطرف الأخر من الكرة الأرضية، كما تتضمن لحظنة السياسة دخول البشرية مرحلة الزمن العالمي والكون الواحد، وانتفاء الفارق الزمني، على الرغم من اختلاف البعد المكاني للحدث السيلسي، وبلغت البشرية مرحلة الزمن السياسي العالمي؛ إذ لم تعد هناك أزمنة سياسية مختلفة كما كان الأمر عليه قبل بروز العولمة.

ويرى أن استفراد الولايات المتحدة بالشأن العالمي مثّل بداية بروز نظام عالمي جديد في طريقه ليصبح نظاما متعدد الأقطاب، فبجانب اللحظة الأمريكية هناك حضور وتأثير لكل من الصين وأوروبا واليابان بصفتها قوى جديدة، وانتقال مركز الثقل العالمي من الغرب إلى الشرق، ومن أوروبا وأمريكا إلى آسيا والصين، فاليابان قوة مالية وصناعية وتقنية عملاقة، وتحولت أوروبا إلى كتلة تجارية ضخمة وبرزت الصين فجأة عملاقا اقتصاديا منافسا يتطلع إلى لعب دور سياسي مستقبلي على الساحة السياسية العالمية، ولدى كل قوة من هذه القوى الكبرى قدراتها وإمكانياتها الضخمة، وتسعى إلى توظيفها للتأثير في مسارات النظام العالمي الجديد واتجاهاته وأولوياته وتحويله إلى نظام تعددي.

Dr.Radwa
Egypt Air