أربع ساعات كاملة لم يقل الراحل.. ولا الشهيد ولا المرحوم.. فما يزال سيادة المقدم صلاح حواش حياً واقفاً أمامه حتى خلته ثالثنا فى الجلسة الطويلة.
أحادث محمد المصرى .. بطل تدمير المدرعات الإسرائيلية بصواريخ الفهد.. فى نصر أكتوبر 73.. حيرنى .. أذهلنى .. أبكانى .. ماذا فعلت فى الحرب يا عم محمد.. يجيب دائماً .. سيادة المقدم صلاح حواش فعل كذا وأمرنى بكذا.. أربع ساعات أتساءل:
ألم ينس ؟!
ألم يغوه استشهاد القائد فى اليوم الثالث للقتال (8 أكتوبر 73) واستمر هـو ثلاثـة أشهر فى قتـال النصـر.. أن يقـول (أنا فعلت).. أن يخص نفسه ببعض الفضل..
من يحاسبه.. غير الله ونفسه والوفاء للشهيد.
هل هى روح النصر.. زمالة القتال.. أو الذوبان الإنسانى.. الراحل لم يزد عمره عنه إلا سنوات قليلة.. كانوا شباباً.. لكنه القائد.. يصر فى ذكراه سنويا على السفر للقاهرة من محافظته البعيدة.. يجرى مكالمة تليفونية للأسرة يطمئن عليهم.. وتأكدت أنهم لا يعرفونه.. حتى لو التقوه فلم يرى أى منهم الآخر.. لكنه يصر على الاتصال.. وبكيت.. الإخلاص.. الزمالة.. روح القتال.. قبس من نور النصر.. فواجهت كثيراً (روح النصر) بين كلمات قادة أكتوبر ومتعة سماع ذكرياتهم.. ورصد شخصياتهم الفذة.. اللواء محمد أمين الكنزى، الحاكم العسكرى للسويس.. أثناء حصار المائة يوم وهو يستمتع بكل ذكريات المعاناة اليومية والتحدى ضد الحصار والجوع والعطش، وانضباط المحاصرين ومعرفته بأسمائهم كاملة وترديده (كانت أيام جميلة).
اللواء فتحى عباس فى الحصار يغامر مع ضابط اتصال دولى لتوصيل معلومات لمصر من بين أنياب الحصار وينجح ويجند فدائيا على العدو يخدعهم وحكايات غامضة حتى الآن.. الشيخ محمد أبو داود واعظ المظلات.. يصر على البقاء مع الجنود أعلى (تبة مريم) فى قلب ثغرة الدفرسوار، وسط قوات العدو.. يرفع معنوياتهم بالإيمان.. وفتواه التي أقلقت الأمم المتحدة.. اللواءان حسين وكمال منصور.. التوأمان كانا قائدى كتيبتين فى معركة واحدة يحمى أحدهما الآخر والأخ الثالث ضابط احتياط مهندس يفتح لهما ثغرات الألغام.. فلم ينسوا وسط الأهوال نصيحة أمهم بألا يقولوا أنهم ثلاثة ضباط جيش حتى لا يحسدهم أحد!!
وغير ذلك الكثير، فرأيت أننى لمست جزءاًَ مهماً لا تعنينى فيه الوقائع والتواريخ فقط، لكنها (روح النصر) التى حققت المعجزة.. لذا يوم أن طلبت رصد أول ما تم فى النصر وصلنى عبر الهاتف أن أولى الأوائل.. هى لفظة (الله أكبر).. كأول كلمة فى الحرب.. وجدتنى وسط الأرقام والتواريخ أخط بخط عريض
(الأولة فى القتال •• الله أكبر)
(واللـه زمـان يا إبراهيم)
••
انفصل اللواء بهنس تماماً.. يهمس وبصره على الباب.. الواد ده إبراهيم.. هو .. ما أتغيرش.. ليهب واقفاً فاتحاً ذراعيه على اتساعهما زاعقاً
- تعالى يلا.. تعالى يا إبراهيم..
فيهرع إليه يلتحمان فى عناق المقاتلين.. غائبين عنا ينفصل رأساهما متشابكى الأذرع.. يتطلع كل منهما للآخر.. يمسك وجه بكفيه.. يضغط على كتفيه بقوة.. يهز زنده بحميمية.. كأنهما خارجان من معركة.. يتمم كل منهما على سلامة الآخر».
_والله كبرت يا واد يا إبراهيم.. إيه الدقن دى
- إزيك يا فندم.
وقفا طويلاً.. يتطلع كل منهما للآخر.. وعلى مهل يجلسان.. يخفى اللواء بهنس بيديه دموعا غاليه برقت على خده وعينيه.
إنه لقاء الـ 17 عاماً.. منذ أنهى اللواء محمود سلطان بهنس خدمته بسلاح المدفعية 1989.. والمساعد إبراهيم محمد محمود عوض.. أفضل رامى صواريخ موجهة مضادة للدبابات..
وكنا قد عرفنا بقصة العريف أول إبراهيم عوض..
ولم نجد له عنواناً فى أى جهة محتملة، ومن موضوع وحيد بمجلة النصر رصدنا اسم اللواء بهنس الذين أشاد به البطل وبفضله عليه.. بحثنا عنه.. ووجدناه لا يعلم شيئاً عن إبراهيم منذ 17 عاماً..ووعدنا خيراً.. وبعد 24 ساعة جاءبتليفوناته وعنوانه فى بورسعيد وجاء معنا للقائه
سألته فى رحلة الذهاب.. عن أهمية سفره أجابنى مبتسماً..
_أولاً الراجل ده يستحق تمثالاً من الذهب.. وكم من بطولات فى حرب أكتوبر يصعب رصدها لغزارتها.. ويكفى أن أقول لك إن هذا الرجل هو الذى صنعنى.. لا تستغرب.. وتلك ليست شجاعة أدبية.. لكنها الحقيقة.. وبالأرقام.. فى حرب الاستنزاف 69.. استطاعت كتيبتى للمقذوفات المضادة للدبابات إصابة 42 هدفاً للعدو منها 36 دبابة.. نجح إبراهيم وحده فى إصابة 34 هدفاً منها.. أى أن باقى الرماة أصاب 8 أهداف فقط.. وكل ما نلته كقائد لوحدتى من تقدير .. كان بفضل جهد إبراهيم.. كان يمكننى بسهولة دعوته للقاهرة.. لكنه قال لى فى أول اتصال تليفونى أن أمنية حياة أولاده رؤية اللواء بهنس.
وفى الموعد.. كان اللقاء.. جلسا على طرفى المنضدة.. يرنو كل منهما للآخر.. و بريق دمع يغلف مقلتيهما.. يسافران بهما بعيداً (رجعونى عينيك لأيامى اللى راحوا) لأجد أمامى ضابطاً شاباً فى عمر 22 سنة، وجندى متطوع حديث يماثله فى السن والمولد ( 1945 )ومهارة وكفاءة ووطنية.. ورجولة وجدعنة جمعت بينهما.
تقاربا برأسيهما يتحدثان طويلاً.. أرصد أسماء وتواريخ ومعارك.. بخصوصية سلاحهما استمتع بحميمية..
ــ فاكر يا واد يا إبراهيم..
ــ أيوه يا فندم..
فأخذتهما للذكريات من البدء للمنتهى.. بتفاصيله وأرقامه وغيابهما أحياناً عنى فى حديثهما الممتد طويلاً.. وفرحة زيارة الأسرة التى عمها الإحساس بالفخر والمجد وعشم الأب المحب فى تعامل اللواء بهنس مع الأبناء..
فى نهاية يوم متعة حكايات والنصر.. سألت إبراهيم عوض عن مشاعره عند مشاهدة اللواء بهنس..
أجاب رغم هدوءه الشديد الملحوظ ..
ــ ردت لى روحى .. إنه قائدى وأبى وأستاذى وقدوتى.. ويصمت اللواء بهنس طويلاً فى ليل طريق العودة.. ليعود بملامح صدق شديد على وجهه.. ليقول لى ..
كثيراً ما تبرق فى ذاكرتى ومضات من حكايات أيامنا الجميلة .. لكنك اليوم جعلتنى أعيش الفيلم من أوله إلى آخره.. ويصمت قليلاً .. ليردد وكأنه لنفسه ..
ــ يااااه دى حياتنا اللى بجد.