الجمعة 1 نوفمبر 2024

الحارثي : عنترة والفرسان الأكثر ذكرًا للغبار في أشعارهم

غلاف الكتاب

ثقافة29-10-2022 | 12:10

دعاء برعي

يأتي عدم تعرض الباحثين لظاهرة الغبار في الشعر الجاهلي، وعدم الاهتمام بها في البحوث الأدبية على الرغم من كثرتها في الشعر، من أهم الأسباب التي دعت الباحث العربي صالح بن سالم الحارثي لطرحه موضوعًا لدراسته الصادرة حديثًا في كتاب بعنوان "صورة الغبار في الشعر الجاهلي" عن إحدى دور النشر.

جمع الباحث مادته العلمية في الكتاب من خلال الشواهد الشعرية، وكان أول من يحوز السبق في طرحه، ووصف "الحارثي" موضوع بحثه في "الغبار" بالشائك، لأنه لم يستفد من أي دراسة قديمة أو حديثة حول هذا الموضوع، لتبقى قيمة هذا البحث في جدته وفتحه الأفاق للباحثين لإكمال المسيرة في كل ما يستجد من موضوعات عن طريق ما جمعه من مادة علمية لشواهد شعرية في هذا البحث.

لذا يعد بحث "الحارثي" عن ظاهرة الغبار جديدًا من نوعه، ويسعى للإجابة عن بعض الأسئلة حول أنواع الغبار في الشعر الجاهلي، وعدد أسماء الغبار في المعاجم العربية، والأغراض التي كثر فيها وصف الغبار، حيث ينقسم موضوع البحث إلى فصلين، يشير الأول منه إلى أنواع الغبار وأسمائه، وقسّمه الباحث في دراسته البحثية إلى ستة أنواع وفق ما اتضح له وورد في المختارات والدواوين الشعرية، وهي "غبار المعارك، وغبار الطرد، وغبار الأقدام، والغبار الذي تثيره الرياح، وغبار الذل والمهانة، وغبار الحزن والفتن"، ثم بيّن معنى أسماء الغبار من خلال المعاجم اللغوية، والمقارنة بينها مع الاستشهاد ببعض الأبيات الشعرية التي تؤيد ذلك، ومحاولة تصنيفها في معاجم دلالية، فيما قصد الفصل الثاني من موضوع البحث إلى الغبار في الأغراض الشعرية، من خلال سبعة مباحث، تحدث الأول منها عن الوصف والغبار، والثاني عن الفخر والغبار، والثالث عن الحماسة والغبار، والرابع عن المدح والغبار، والخامس عن الرثاء والغبار، والسادس عن الطرد والغبار، والسابع عن الهجاء والغبار، حيث يتطرق الباحث في الفصل الثاني لتوضيح الصورة في الشواهد الشعرية وإصدار الأحكام على جودتها من عدمه، ومدى اختلاف كل شاعر عن غيره، ومدى توظيف كل شاعر لاسم الغبار من خلال السياق حسب الأغراض الشعرية، ثم يركز على توضيح الصورة حسب وجهة نظره.

وعلى الرغم من أنه يحسب للبحث والباحث أن دراسة ظاهرة الغبار دراسة جديدة، لكنّ هذه الجديدية شكَّلت عائقاً كبيراً وفق ما أشار إليه صالح بن سالم الحارثي، حيث عدم وجود دراساتٍ سابقة في هذا الموضوع جعله يشق طريقاً صعبًا عند بناء البحث وتقسيمه، يقول: "ولم تكن قلة المراجع عائقاً، لكن الوصول لها كان عائقاً إلى درجةٍ ما، لقلة المكتبات، وبُعد المسافات بين ما هو متاح منها. أيضًا تبقى صعوبة التعرف على تطور الصورة الفنية للغبار في العصور المختلفة، ضمن الإشكاليات التي اعترضت البحث، فمن أكبر الإشكاليات التي صادفت الباحث في العصر الجاهلي، هي الترتيب الزمني للشعراء، لأنها الأساس في مدى معرفة التطور الذي يحدث في الفن الذي يتناوله بالبحث، كذلك الترتيب المكاني، لأن العرب كانوا يتنقلون من مكان إلى آخر، كالنابغة والأعشى وزهير بن أبي سلمى وفق "الحارثي".

ويحدد الباحث أنواع الغبار وفقًا لما ورد في المختارات والدواوين الشعرية، يقول: "للغبار أنواعٌ كثيرة تتجلى في العديد من الشواهد الشعرية، وهي: غبار المعركة التي يثور فيها الغبار جراء شدة المعركة، وغبار الطرد التي يثور فيها الغبار جراء طرد الشاعر لفريسته، والغبار الذي تثيره الرياح وهو غبار الطبيعة، وغبار الأقدام وأخفاف الإبل، وغبار غير حقيقي وهو غبار الذل والمهانة وغبار الحزن والكآبة".

ويقول "الحارثي": أما قول المثقب العبدي في وصفه ثوراً طردته الكلاب:

غُبَارُهُ فِي إِثْرهِ سَاطِعٌ

مثل رشاءِ الخُلب الأجْرَدِ

 

فقد شبه الغبار المرتفع بالليف الكثيف، وقد تطاير من السماء، وهو ما جعل الأصمعي يقول

عن هذه الصورة بأنها" أحسن شي قيل في الغبار.

 

ويظهر الغبار في وصف عدي بن زيد العبادي لفرسٍ يطارد عيرًا حيث يقول:

كَأَنَّ رَيِّقَهُ شُؤبُوبُ غَادِيَةٍ

لَمَّا تَقَفَّى رَقِيبَ النَّقْعِ مُسْطَارا

 

فقد شبّه الفرس بالسحابة شديدة وقع المطر، وفي البيت دلالة بصرية إذ إنَّ الشاعر جعل فرسه يراقب غبار الحمار ويتبع أثره.

ويضيف: "وقد كان الغبار علامةً من علامات الحرب في الجاهلية وكناية عنها، وهذا واضح في شعر عبيد بن الأبرص حيث يفتخر بشجاعته وصبره قائلاً:

وَنَصُدُّ الأَعْدَاءَ عَنَّا بِضَرْبٍ

ذي خِذَامِ وَطَعنِنَا بالحِرَابِ

وَإِذَا الْخيلُ شمَرَتْ فِيْ سَنَا الحَرْبِ

وَصَارَ الغُبَارُ فَوْقَ الذُّؤَابِ

فالشاعر يفخر بقومه قائلاً "نمنع الأعداء عنا بسيوفنا القاطعة ورماحنا الطاعنة, وتجد خيلاً مسرعةً في ساحه المعركة المحتدمة, ويتطاير الغبار من تحت أقدامها فيغطي شعر نواصيها" وفي البيت الثاني كناية عن قوة احتدام المعركة واشتدادها؛ وهو ما اتضح من قوله "صار الغبار فوق الذؤاب" فكنَّى بالغبارعن اشتداد المعركة واحتدامها واشتعالها، وقريب منه قول الأفوه الأودي:

شَنَّ مِنْ أَوْدِ عَلَيْكُمْ شَنَّةً

إِنَّهُ يَحْمِيْ حِمَاهَا وَيَغَارُ

فارس صعدته مسومة

يخضب الرمح إذا طار الغبار

فقد عبَّر الشاعرعن حماية الديار والغيرة بقوله:" هاجمكم هذا الفارس الأودي هجوماً صاعقاً, ذلك أنَّه يحمي دياره ويغار على حماه, هذا الفارس ذو رمحٍ مسمومٍ, فإذا حمي وطيس الحرب، وثار غبارالوغى روَّى رمحه بدمائكم وصبغه بالأحمر الفاني".

ويشير الباحث إلى أن الشعراء الجاهليين رثوا  أقاربهم من خلال ذكر الغبار وفيه مدح لهم وذكر لمحاسنهم والرثاء هو مدح لهم، "فليس بين المرثية والمدحة فصل إلا أن يذكر في اللفظ ما يدل على أنه لهالك.."

ففي الغبار ترثي سليمى بنت المهلهل عدياً أخاها إذ تقول:

ألاَ تبكيانِ المرتَجى عندَ مشهدٍ

يثيرُ معَ الفرسانِ نقعَ الأباطحِ

عدياً أخا المعروفِ فِي كلَّ شتوةٍ

وَفارسها المرهوبِ عندَ التكافحِ

فالشاعرة ترثي أخاها بذكر خصاله الحميدة فتصفه بالشجاعة والكرم، فهو يثير مع الفرسان نقع الأباطح ويقود الجيوش أو يكون فيها مع قومه، فهو أخو المعروف؛ لأنه المرتجى وقت الجدب ووقت الحرب، فهو كريم وقت الجدب، شجاع وقت الحرب. وفي قولها: "يثير نقع الأباطح" دلالة على شجاعته وقت ارتفاع الغبار وهي صورة للجيش الكثيف الكثير الفرسان، وفي العبارة كناية عن قوة الجيش، وقد اعتمدَتْ في تصويرها على الوصف الدقيق لمشهد الجيش، وقد أجادت في رثائها لأخيها وذكر محاسنه من خلال غبار المعارك. وقد وظفت الشاعرة اسم النقع في سياق البيت ليدل على ذكر محاسن الميت يدل على ذلك "يثير- فارسها المرهوب" وتكررت صورة الرثاء في الغبار عند الخنساء في رثائها أخيها مالك بن زهير العبسي غير أنها نفت وجود مثيل له وقت القحط والجدب فتقول:

فَمن للضَّيْف إِن هَبَّت شَمالٌ

مُزَعْزعة تجاوبها صداها

أمُطعمكُم وَحَامِيَكُمْ تَرَكْتُمْ لَدى

غَبْرَاءِ مُنْهَدِمٌ رَحَاهَا

فالخنساء ترثي أخاها وتندبه وتذكر أنه لا يوجد سواه عندما تهب الريح الباردة التي لا يجد وقتها الناس ما يأكلون، فالريح لا يصدها شيء؛ لأن الأرض خالية من المرعى والحيوانات. ثم استفهمت الشاعرة قائلة: كيف تركتم سيدكم على الأرض مقتولًا وهو الذي كان يكفيكم غبارها، وقد كنَّت عن الأرض بكلمة "الغبراء"

والمعاني متقاربة في قول سليمى والخنساء فمعنى الكرم والشجاعة موجودان في قولهما، غير أن لكل شاعرة طريقتها في وصف حزنها وذكر محاسن من ترثيه، وقد وظَّفت الشاعرة اسم الغبرة في السياق لتدل على الأخذ بالثأر ويتضح ذلك من خلال استفهاماتها المتتالية واستغرابهاتركهم له.

ويواصل الحارثي في دراسة بحثه: "قد ذكر الشعراء الغبار بأوصاف مختلفة على حسب ما يراه كل شاعر، حيث يشبههُ بأشياء كامنة ينتزعها من ذاكرته, لكن هناك صوراً معينةً اتفقوا عليها، منْها: الظلام الذي يَحدثُ نهاراً عند ارتفاع الغبار في ساحة المعركة, والشمس تُحجب؛ لذلك سموه بالظلام والضباب والسحابة".

وذلك كما في وصف عنترة لغبار المعركة حيث قال:

صَبحنَاهُمُ بالحِنوِ خـيلاً مُغـيرةً

فَمَا بَـرِحَتْ تَحْـوي الأُسَارَى وتَسْلُب ُ

لَدُن ذَرَّ قَرْنُ الشَّمسِ حَتَّى تَغَيـَّبّتْ

وَأَقْبَلَ لَيْلٌ يّقْبِضُ الطَّرْفَ غَيْهَبُ

فذكر أنَّ غبار المعركة حجب الشمس حتى أظلم النهار، وأكد على ضوء النهار بقوله:"صبَّحناهم". هذا وقد عدل عنترة عن فخره بذاته إلى الفخر الجماعي، وذلك من خلال فخره بقوة قومه وطول نفسهم في الصبر في ساحة القتال، فهم يغيرون على أعدائهم من الصباح الباكر حتى يكون النهار ظلاماً من شدة الغبار، ويمكن أن يكون مراده أن المعركة تستمر إلى الليل، لكن الأول أولى وأرجح.

من ذلك قوله:

وَيُــطرِبُني وَالخـَيلُ تَـعــثُرُ بِالقَنا

حُداة المَنايا وَارتِعاجُ المَواكبِ

وَضَربٌ وَطَعنٌ تَحتَ ظِلِّ عَجاجَـــةٍ

كَجُنح الدُجى من وقع أيدي السَلاهِبِ

تَطيرُ رُؤوسُ القَومِ تَحتَ ظَلامِها

وَتــَنقَضُّ فيها كَالنُجومُ الثَواقِب

وَتَلمَعُ فيها البيضُ مِن كُلِّ جانِبٍ

كَلَمعِ بُـروقٍ في ظَلامِ الغَياهِبِ

فعنترة يظهر تعجبه وطربه من خلال وصفه المعركة، فخيل ورماح واضطراب، وضرب وطعن في داخل الغبار الذي قلب النهارليلاً من وقع السيوف والضرب مع طيران الرؤوس مثل النجوم الهاوية حتى إنك لترى لمعانها كما يلمع البرق في الليل شديد السواد، فاتخذ من المعركة صورة تمثيلية لشكل الليل مع النجوم، فأظهر هول المعركة التي قلبت النهار ليلاً، وجعلت الرؤوس تتطاير مثل النجوم، هذا بالإضافة إلى ما توحي به كلمة ظلام من هول وفزع وهلع.

ويقدم الباحث في ختام دراسته البحثية أبرز النتائج  التي توصّل إليها، مؤكدا أنه اعتمد على المنهج الوصفي التحليلي القائم على الجمع والتصنيف، والتقسيم، حيث قسّم المتن الشعري إلى حقول دلالية جعلته موضوعًا للنقد والتحليل، كما استند في بحثه إلى تنوع مصادره بين القديم والحديث، فمن القديم، اختار دواوين الشعراء التي جمع منها المادة العلمية، والوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي الجرجاني، والمفضَّليات للضبي، تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر، عبدالسلام محمد هارون، والبيان والتبيين للجاحظ، تحقيق: عبدالسلام محمد هارون، ومن مصادره الحديث: المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي، والأطلال في الشعر العربي لمحمد حجازي، والهجاء في الشعر العربي لسراج الدين محمد، والصورة الفنية في التراث النقدي البلاغي عند العرب لجابر عصفور، وغيرها من المصادر والمراجع التي أسهمت في توضيح الموضوع.

ومن أبرز النتائج التي خلص إليها الباحث:

- وردت شواهد شعر الغبار في شعر الحرب والمعارك ووصف الخيل.

- ورد ذكر الغبار كثيراً في شعر الشعراء الفرسان، وأكثرهم ذكراً للغبار هو عنترة.

- لقد جاء ذكر الغبار في شعر الجاهليين إما عن طريق الحقيقة أو عن طريق الكناية والمجاز التي تشير إلى الغبار دون ذكر صريحٍ باسم من أسمائه.

- كان شعراء الجاهلية القريبة والمخضرمون أكثر خلطاً بين أسماء الغبار من غيرهم ممن سبقهم من الشعراء.

- استخدم الشعراء أسماء الغبار بكثرة في أشعارهم وبعضهم كان يستخدم اسمين من أسماء الغبار عند وصفه مشهد الغبار.

- لم يفرد الشعراء قصائد خاصة بالغبار إنما كان يأتي في قصائد من خلال أغراض متفرقة.

- ارتباط الغبار ببعض القيم الأخلاقية المتدوالة في المجتمع إيجاباً أوسلباً.

- تناول بعض الشعراء التجديد في الصورة الفنية للغبار والخروج عن المألوف أحياناً وإضافة العناصر التشخيصية إليها.

- استطاع البحث أن يتحدث عن الغبار ظاهرياً و عن المشاعر والظلال الخفية المصاحبة للمعنى الظاهر.

- أن المادة العلمية التي ورد فيها ذكر الغبار قد أرَّخت لوقائع تاريخية من خلال أيام العرب في الجاهلية.