ولم تزل أفريقيا تعاني هذه النظرة الضيقة التي لم تستطع أن تخفي تحيُّزها لكل ما هو غربيّ، أفهم أننا نرى مدى ما حققوه تقنيا فيملؤنا الإعجاب وتخرج من أفواهنا صيحات الدهشة.. لكننا بموضوعية هل التفتنا إلى ميراثنا الحضاري الذي قدمناه عن طيب خاطر وإيمانا منّا بدورنا الإنساني في تطوير ما آل إلينا من إرث حضاري ساهمت فيه كل الأمم التي سبقتنا فصحّحنا ما كان شائعا وأضفنا ما استطعنا ابتكاره؟!!، ولأن مايعنينا في هذا المقام كشْف ما يخفى علينا من إبداع الشعراء الأفارقة الذين قدموا إبداعاتهم من خلال لغاتهم المحلية، أو استخدموا لغاتٍ عالميةً مثل الإنجليزية أو الفرنسية أو البرتغالية أو الأسبانية أو غير ذلك؛ طلباً للانتشار و زيادة التأثير، ومشاركةً في مسيرة الأدب العالمي، أري أن الشعراء الأفارقة أستطاعوا من خلال حركة (الزنوجة) التي عاش من أجلها أعظم شعراء السنغال (سنغور)، وجعلها أشبه بالمشروع الشعري والثقافي والسياسي.
وإن كان سنغور يحتل الصدارة في الشعر الأفريقي المكتوب بالفرنسية، فهو يحتل موقعاً مهماً في الشعر الفرنسي، حيث نجح في صهْر اللهجة الأفريقية بلاغةً وإيقاعاً في نسيج اللغة الفرنسية، وظل دوما ذلك الشاعر الأفريقي الذي يكتب بالفرنسية، والذي يصر على أنه يكتب أولا لشعبه، ثم لمن هم خلف الحدود كما عبرتْ أقواله عن ذلك المفهوم.
ومن المعلوم أن هذا الشاعر العظيم ظل رئيسا للسنغال قرابة العشرين عاما حيث تنازل عن الحكم طواعية لينتصر الشاعر على السياسي وهذا من العجيب في الحكام الأفارقة الذين تعاني دولهم من توالي الانقلابات واضطراب خطى الديموقراطية لا أحسبها تكررتْ اللهم إلا في مثال الفريق (سوار الذهب) الذي أطاح بحكم نميري وصدق فيما وعد بتسليم الحكم لإدارة منتخبة، ومن المعلوم أيضا أن شاعر السنغال ورئيسها (سنغور) قد رُشِّح لجائزة نوبل للآداب سبع مرات من عام 1963 حتى عام 1971 وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه سالفا من تفسير الكتابة بإحدى اللغات العالمية من جانب المدعين الأفارقة.
ورغم ميل (سنغور) إلى الثقافة الفرنسية واتجاهات السياسة الفرنسية إلا أن تاريخه النضالي طويل ضد الاستعمار الفرنسي والهيمنة الفرنسية حتى تحقق الاستقلال للسنغال، وضد "العبودية" الثقافية التي كانت تمارس في فرنسا علي الطلبة الغرباء، حيث كتب في إحدى قصائده الأولى يقول: "يا الله، سامح فرنسا... التي تعامل أهل السنغال كمرتزقة، جاعلة منهم كلاباً سوداً...!!، ولعلنا نلحظ ان ميله لم يمنعه ؟أن يوجه الاتهام إلى فرنسا وعنصريتها البغيضة التي تمارسها مثل غيرها ممن ابتليت أفريقيا بهم احتلالاً واستغلالاً لمواردها وبهذه النغمة الاحتجاجية أيضا يصوغ الـشـاعـر مقايى (1875/ 1945) نصاً بديعاً بلغته المحلية (الزوسا) _ولعل ذلك السبب الرئيسي في عدم اشتهار الفصيدة _ في مناسبـة تـكـريم أمـيـرويلز عند زيارته لجنوب أفريقيا عام 1925 م:
أنت يا بريطانيا! يا بريطانيا العظمى!
بريطانيا العظمى التي لا تغرب عنها الشمس الساطعة!
لقد قهرْتِ المحيطات وأفرغتها
أفرغتِ الأنهار الصغيرة وجففتها، وهي الآن تتطلع إلى السماوات المفتوحة.
أرسلتِ لنا الواعظ، أرسلت لنا الزجاجة
أرسلتِ لنا الإنجيل، وبراميل البراندي
أرسلتِ لنا البنادق ذات الكعوب، أرسلت لنا المدفع.
أنت يا بريطانيا الراغدة! أيهما يجب أن نحب..؟ أرسلتِ لنا الحقيقة، وأنكرت علينا الحقيقة!!
أرسلتِ لنا الحياة، وسلبت منا الحياة
أرسلتِ لنا النور، وها نحن نجلس في الظلام
نرتجف في عتمةٍ وجهلٍ تحت شمس الظهيرة الساطعة
بهذه البساطة وهذا العمق الذي يغلف القصيدة، استطاع الشاعر أن يعقد مقارنة بين ما تحياه بريطانيا _شأنها شأن كل المستعمرين _ على خيرات وموارد مستعمراتها غير آبهةٍ بازدواجية المعايير، أو بحقوق الإنسان؛ فهي العظمى التي لا تغيب الشمس عن مستعمراتها، وكأن الشاعر أراد أن ينبه إلى أن ما يعانيه وقومه يعانيه آخرون، وأن الطبيعة بهباتها الكونية يصطدم بها ما ينشره المستعمر من جهالة وتخلُّف، ولم تكتف المقارنة ببيان هذه الازدواجية الأخلاقية بنشر الشيء ونقيضه فليس يهم تواجد الإنجيل وبراميل البراندي أو يتجاور الواعظ والزجاجة ولعلك تلحظ عزيزي القارئ دقة الشاعر في بيان مظاهر الإفساد الفردي والجمعي ؛ ليخلص الشاعر إلى هذه الصرخة الإنسانية التي ترى في المستعمر سالباً للحياة والحقيقة؛ ورغم التشدُّق بحماية المبادئ وإلا أن الحقيقة الدامغة تراها العيون من قهر المحيطات، ونشر الفزع وإفراغ الأنهار من أسباب الحياة؛ لتستمر الشعوب المحتلة تعاني مثلما ختم الشاعر المبدع قصيدته البديعة (وها نحن نجلس في الظلام ، نرتجف في عتمة وتخلف) رغم العطايا الإلهية مثلما ذكر الشاعر (تحت شمس الظهيرة الساطعة).
ومن المدهش لنا كعرب نتصف بالكرم الحاتميِّ، لم يبادر أحدهم مثلاً ليعارض الشاعر بدعوى الدبلوماسية وأن مناسبة تكريم أمير ويلز لا تحمل مثل ذلك، أو تتضمن مناهجهم المدرسية في مادة التاريخ ماذا استفاد الوطن من الوجود الإنجليزي؟
هل كان ذلك مرجعه فشل بريطانيا في فك رموز حجر كيب تاون مثلا؟!!! مثلما نفعل هنا في الترويج لنتائج حملة هذا البونابرت والاحتفاء المئوي بها وكأنه لم يكن احتلالاً!