منذ سنوات طوال كان للمثقّـفين في مصر اتّصال وثيق بالشّـأن العـامّ، كانت هناك فئة لا تحترف الكتابة فحسب، بل تبدي أنواعاً من الالتزام بالقضايا العامّـة، فتـهيـم بها فكراً وتحليلًا، تنخرط في شؤونها وتعتبر محور تفكيرها وإنتاجها الأدبيّ أو الفنيّ أو الفكريّ، لا يختلف عنهم فريق آخر من المثقفين كرس قلمه للدّفاع عنها في أطرٍ سياسيّة أو اجتماعيّة، جمَع بينهما إدراكٌ مشترَك لوظيفةٍ أخرى للثّقافة والفكر غير الوظيفة المعرفيّة، هي الوظيفة الاجتماعيّة.
تعرض هؤلاء المثقفين لنقدٍ لاذع منذ منتصف القرن الماضي، تم انتقاد أيديولوجيتهم لطغيانها على المعرفة، وكان نقداً للأدوار الرّسوليّة والمثالية التي انتحلها بعض هؤلاء لأنفسهم أو زعموا انتدابهم لبناء المدينة الفاضلة.
ولقد كان ضروريّاً نقْـدُ تلك الأُزعـومات من باب الإفاقة لإعادة المثـقّـفين إلى مكانهم وإلى أحجامهم الطبيعيّة بوصفهم فـئةً حاملةً لرأسمالٍ لا يحمله غيرُها، هو المعرفة والثّقافة كمنحتين جزيلتيْ العوائد على المجتمع والشّعب والأمّة إن أُحـسِنَ أداؤُهُـما.
زاد إقبال المثقفين في (نهاية القرن الماضي) على اتجاه الالتـزام السياسيّ والحزبيّ وكأنه وسام أو وجاهة اجتماعية، إلى الحدّ الذي كاد فيه اسم المثقف يُنادى مقروناً بعضويّته في حزبٍ شيوعيّ، أو يساريّ، أو قوميّ، أو وطنيّ...إلخ، أي في فترةٍ اقترن فيها الالتزام بالمؤسّسة لا بالفكرة، حتى مضى هذا الزمن وطُوِيت فيه صفحةُ مثـقّـف الحزب، سواء ترك بصمة أم مر به كعابر سبيل.
أمّا اليوم فاختلف الأمر تماماً، لم يَـعُـد في أحزابنا مثقّـفون، باتت خاوية بعد أنِ لُفظوا منها، أو دُفِـعوا إلى المغادرة، ربما إستراتيجية اتبعتها الأحزاب كي يستقيم ويستقر شأنها وربما لم يملك هؤلاء المثقفون سوى لسان لم يجيدوا توظيفه لخدمة أفكارهم.
وهنا نتساءل أين المثقف النخبوي في الوقت الحالي، بعد هجرته من العمل السياسي وابتعاده عن مؤسسات السياسة المهترئة على -حد قوله- ؟.
وجدنا هؤلاء المثقفين وقد انكبوا على الشأن العام ظاهرياً، أي عنونوا عطاءهم "بصالح الشأن العام" ولكنهم للأسف تقولبوا داخل دائرتهم المُغلقة، واستمدوا لحياتهم نظام تغذية صناعية قائم على محورين، الأول هو منشورات الفيسبوك ومقالات المواقع ضعيفة الانتشار، يتفنن فيها المُثقف في تعقيد مصطلحات مقاله مُداعبًا جهل الغالبية وسخط البعض - من القراء- على الظروف الاقتصادية والاجتماعية، فتصبح غايته جمع أكبر عدد من المتابعين والتعليقات، فينام قرير العين مطمئناً كونه من النخبة المثقفة!.
أما محور التغذية الآخر، فهو ندوات ومحاضرات تبادلية - على نظام " النقوط" الشعبي- بين زملاء نفس القالب، لا تصل أصداءها للمواطن العادي أو حتى القارئ المتوسط، بل تكون مناسبة لتبادل الآراء ومناقشة الأحداث و لا تخرج عن اجترار الماضي الثقافي ولعن كل ما هو محيط، ولا يخلو الأمر من ذرف دموع الحسرة على المستقبل الثقافي والسياسي والمجتمعي القادم!
ربما هناك آراء تصيح بأن المناخ العام طارد للنُخبة المُثقفة لصالح عدد من الرموز ليس لديها أي مضمون ولا تضيف شيئاً سوى الصوت العالي، فغاب المثقف النخبوي يائسًا من سماع صوته ولكن هذا التحليل لا يشفع لخطأ استراتيجيته الثقافية، والتي ارتكزت على التقوقع داخل صَدفة لامعة أعاقت فتح جسور التواصل مع العامة، وغابت عن النخبة المثقفة نظرية " أرض الواقع"، أي المتحقق هو من يملك فاعليات على الأرض، ومن كان إبداعه وقلمه مؤثراً في الجموع، ومن يخاطب عقول الشباب ويطوع لسانه لمجاراة أفكارهم ومطالبهم، ومن يتبسط في إيصال أفكاره لغالبية العقول مهما تفاوتت درجاتها، يُعد هو المثقف النخبوي الحق في عصرنا هذا.