الأربعاء 29 مايو 2024

ما الذي فعلته النقطة السوداء؟

12-2-2017 | 13:47

يحيى سلام المنذري - له خمس مجموعات إصدارات قصصية: "حليب التفاح"، "الطيور الزجاجية"، "بيت وحيد في الصحراء"، "رماد اللوحة"، "نافذتان لذلك البحر".

   بعد المكالمة الهاتفية ظل مسعود واجما وغير قادر على التفكير في إيجاد حل لمعادلة برمجية في الحاسب الآلي. سمع صوت جون زميله المبرمج الهندي يناديه ليسأله عن الرمز المفقود، فأجابه مسعود على مضض ودون انتباه. رجع جون إلى مكتبه غير مكترث كعادته بقلق مسعود، لأن جون لا يبالي إن حزن أحد زملائه أو فرح أو مات، علاقته معهم علاقة آلية كعلاقته مع البرمجة، يفعل ما يُطلب منه، لا يضيف، لا يقترح، ولا يطور. لكنه ماهر في إعداد البرامج الإلكترونية، وحل المشكلات الفنية، يحضر الدوام، يجلس على مكتبه، يغوص في الحاسب الآلي، يأخذ استراحة ليفطر، وفي نهاية الدوام يخرج، وفي نهاية الشهر يفرح براتبه الكبير.

***

   النقطة السوداء بالنسبة لمسعود شيء مختلف، حينما يراها يتحول إلى طفل. يمسك بالقلم. ينقط في البياض. تتكاثر النقاط. يصفّها دون أن تلامس بعضها. يحرص على أن لا يرسم خيطا أو خطا يوصلها ببعضها، فقط يترك مسافة قصيرة بين نقطة ونقطة، بحيث لا يمكن أحد أن يلحظها من بعيد. تظهر كالجنود في طابور عسكري. تتبع النقاط بعضها بانتظام وفق مسار دقيق حُدد لها. وبعد اصطفافها يظهر وجه فتاة لا تفارقها الابتسامة.

 ***

   كُلف مسعود بحضور الاجتماع الكبير نيابة عن المدير. وهذه أول مرة سيحضر اجتماعا مهما وعلى مستوى كبير، فلم يسبق أن تغيب المدير ونائبه ورئيس القسم في يوم واحد. أغلق الحاسوب، أخذ دفتر الملاحظات، خرج من المكتب، توقف، رجع إلى المكتب وأخذ قلما. دخل المصعد فوجد رجلا رث الملابس، له لحية بيضاء، ويرافقه شاب، شاهد مسعود شامة في أنف الرجل، فأخذ يحدق فيها، فانتبه الرجل لنظرات مسعود، وقال له: "هل تعرفني؟". انتزق مسعود ورد بسرعة وقال: "يمكن..لا أتذكر". وفتح باب المصعد، وخرج الرجل وتبعه الشاب.

***

   هكذا هو، منذ صغره تشده النقاط الصغيرة السوداء، يجد فيها متعة، تلهمه للرسم والشعر. وقبل كتابة قصيدة يمسك قلما أسود ويبدأ برسم نقاط صغيرة عشوائية، يملأ الورقة بها، ثم يجد نفسه يكتب قصيدة، وقبل أن يبدأ في أي برمجة إلكترونية ينقط على الشاشة قبل كتابة الرموز والأرقام. تساءل كثيرا عن هذا الهوس، ولماذا يستمتع بالنقاط؟ لكنه لم يجد إجابة. واحتفظ بهذه العادة لنفسه، واعتبرها سرا لا يمكن لأحد أن يعرفه. هناك فقط بعض القصائد التي أشار فيها وبرمزية إلى هذه النقاط وتأثره بها. وهناك البرنامج الرقمي الذي ابتكره لنفسه، وهو مشهد إلكتروني يظهر في حاسوبه حينما يتوقف عن العمل: جبل من النقاط السوداء، يتدفق منه شلال من النقاط، يصب في قاع وادٍ يحمل قاربا، ثم تتبعثر النقاط، تتلون وتنتشر تدريجيا لتغطي الشاشة.

   وإن رأى مسعود فتاة على وجهها شامة يخفق قلبه، ويهيم ويظل يحدق فيها، ثم يلحق ذلك بكتابة قصيدة. وإن رأى حقيبة منقطة يطلب أن يصورها بهاتفه النقال. كان يكره الأحاديث أو التعابير التي تقلل من قيمة النقطة السوداء، مثل الجملة التي تقول: "هذه نقطة سوداء في حياتك". يعتبرها جملة شريرة وحقيرة وعنصرية، وإن سمعها أو سمع ما يشبهها يصاب باكتئاب وحزن.

***

   وصل مسعود. أمسك مقبض الباب الذهبي ودفعه بكل قوة يمتلكها، ودخل قاعة الاجتماعات، ولم يجد أحدا. قالوا له إن عليه الحضور قبل ربع ساعة من بداية الاجتماع. وقد حضر قبل ذلك تجنبا للتأخير. جلس في أحد الكراسي وحركه يمينا ويسارا. تحسس نعومة الطاولة وتمكن من مشاهدة السقف وأضوائه في داخلها. لديه رغبة في مشاهدة المسؤول الكبير الذي سمع عنه كثيرا. شاهده في الصحف فقط عندما كان يرعى بعض المناسبات. سمع عن جديته في العمل، وعن رغبته في رؤية كل شيء نظيف ومرتب. تساءل: "لماذا أنا هنا؟ وماذا يمكن أن يقال في مثل هذه الاجتماعات؟". فجأة ساوره القلق. نظر إلى السقف المطرز بالديكور والمصابيح التي كانت كالنجوم، وقال: "ماذا يمكن أن أقول في مثل هذه الاجتماعات؟".

    نظر في ساعته. رفع رأسه وشاهد الساعة المعلقة على حائط القاعة ليتأكد من تطابق الوقت مع ساعته. ولكنه اكتشف بأن ساعة الحائط لا تعمل. تأمل في حجم الطاولة، وتخيل بأنها ساحة واسعة للمشي، فبالأمس لم يجد مكانا آمنا يمشي فيه، وها هو اليوم أمام ساحة سباق. بحث عن نقطة سوداء في الغرفة فلم يجد. نظر مرة أخرى إلى السقف فلم يجد فيه سوى مصابيح ذهبية تبعث على الكآبة، تخيل بأنها ستكون أجمل لو أمطرت نقاطا سوداء وملأت الطاولة بها. قال في نفسه: "هذه فرصة لأكلم المسؤول الكبير في موضوع استكمال دراستي"، "ولكن كيف؟"، "ما هي الطريقة المثلى؟". وجد مسعود نفسه في مستنقع حيرة. فهو يعرف بأن مقابلة المسؤول الكبير صعبة جدا، وأن مديره لن يساعده أبدا في موضوع دراسته. مرت عشر سنوات منذ أن تعين في وظيفة مبرمج حاسب آلي، وتذكر بأنه سبق وأن قدم طلبه مرارا لدراسة الماجستير لكنه لم يجد سوى الوعود وفقط، بينما آخرون يستجاب لطلبهم ويسافرون في بعثات دراسية بدون جهد يذكر. حاول مرارا أن يعرف سبب عدم إجابة المسؤولين لطلبه. ماذا فعل لهم؟ كل ما يعرفه بأنهم يثنون على عمله، وأنجز أعمالا مهمة في البرمجة، وهو صاحب مبادرات ومقترحات. فلماذا لا يذهب ليدرس؟ كثيرا ما تخيل بأنه يطير إلى بلاد بعيدة لكي يدرس. يغوص بين ناسها، ويدفن نفسه في مكتباتها ومقاهيها وسينماتها، ويشاهد شروقها وغروبها وثلجها. يلبس ما يشاء. يضع حقيبة على ظهره ويركب القطار ويرحل حيث يشاء.

    دخل ناصر مقرر الاجتماع وقطع خيال مسعود. ألقى السلام، وعلى الفور أشار إلى الكرسي الذي جلس عليه المبرمج مسعود: "لو سمحت أخ مسعود.. هذه الكراسي لمدراء العموم.. المدراء أو من ينوب عنهم يجلسون هناك". وأشار إلى آخر الطاولة. تجهم وجه مسعود وانصاع للأمر، وانتقل إلى المكان المناسب. وبعدها بدأ المسؤولون في الدخول إلى القاعة. وتبادلوا التحية. وكانوا يسلمون على مسعود بسرعة، وهناك من تجاهله. تبادلوا هموم العمل ومواضيع أخرى، ولم ينس بعضهم إلقاء النكت، لتنتشر كالفقاعات الصابونية في الغرفة، وتدغدغ الآذان لتنطلق على أثرها الضحكات كالريح. وآخرون كان ملاذهم هواتفهم النقالة، وهي الكائنات المبهجة، موّلدة الابتسامات السريعة، التي تستمر لثوانٍ، وبعدها تغلق الأفواه، وتعود العيون إلى قراءة الشاشات الملونة.

   وبعد ساعة من هذا المشهد، دخل المسؤول الكبير وألقى السلام. وقف الجميع. ثم جلسوا. ابتسم مسعود إذ تذكر أيام المدرسة حينما كان يدخل المدرس غرفة الصف، ويهب جميع الطلبة وقوفا، ولن ينسى مشهد مدير المدرسة ذات مرة حينما دخل غرفة الصف، ووقف له جميع الطلبة عدا واحد، ظل جالسا، فحدجه المدير بنظرات غضب، لكنه لم يعبأ ولم يقف. ثم طرده من الصف، وخرج مرفوع الرأس.

    جلس المسؤول الكبير. وعلى الفور التقط مسعود مشهد الشامة الموجودة في رقبته، فارتبك قليلا، ونكس رأسه. بعدها لاحظ وجود فتات طعام ملتصق بلحيته، سرعان ما التقط المسؤول منديلا ورقيا ومسح الآثار من المنطقة الثلجية الموجودة في وجهه. رسم مسعود خلاطا آدميا يعمل ليل نهار، وتخيل وجود أزمة ستحل بالبلد وهي نقص في المواد الغذائية. رحب المسؤول الكبير بالحضور وألقى نكتة. انتشرت كالغبار. ضحك بعض الحضور. ابتسم مسعود مجاملة لأن النكتة لم تضحكه.

    نظر المسؤول في آخر الطاولة حيث يجلس مسعود، وسأله: "من أنت؟". على الفور أجاب مسعود وقال: "أنا مسعود مبرمج في دائرة تقنية المعلومات، حضرت بدلا من المدير". اندهش ناصر مقرر الاجتماع ومنسق المسؤول الكبير من كلام مسعود، فهو لم يذكر أثناء حديثه لقب المسؤول. لكن ناصر تجاهل الموضوع، وقدم العذر لمسعود لأنه بلا شك جاهل بالبروتوكولات، فقرر لاحقا أن يقدم مقترحا للمسؤول بتوفير دورات تدريبية للموظفين في الإدارة وفن البروتوكولات.

   صمت المسؤول الكبير، ثم قال: "أه.. نعم.. نعم.. أنت مسعود، الذي يكتب الشعر؟". أجابه مسعود بزهو: "نعم، إنها مجرد محاولات". ضحك المسؤول الكبير وقال: "ما الذي جمع البرمجة مع الشعر؟ نحن صرنا نخاف على التكنولوجيا". احمر وجه مسعود. نكس رأسه. لم يستطع أن يتكلم. وشعر في لحظة بأن تلك الرقبة لا تستحق تلك الشامة الرائعة، ثم أردف المسؤول الكبير وقال: "لا عليك هذه مداعبة ليس إلا".

   بعدها انتزق الجميع على إثر صرخة المسؤول الكبير. اهتزت القاعة. تساءل معظم الحضور، وأطلقوا تساؤلهم في نفس الوقت: "خير طال عمرك.. عسى ما شر؟". اكفهر وجهه. رفع ورقة جدول الأعمال ووجه كلامه لمقرر الاجتماع وقال له: "ناصر.. هنا نقطة سوداء بجانب الموضوع رقم خمسة".

   فتح مسعود الورقة فور سماعه لكلام المسؤول الكبير، وشاهد النقطة، وتنهد بمتعة. ارتبك ناصر مقرر الاجتماع، وحدق فورا في الورقة التي أمامه، وقال: "نعم طال عمرك، حتى أنا موجودة عندي طال عمرك.. إنها بسبب الآلة الطابعة طال عمرك". رد المسؤول الكبير بغضب أكثر: "يا برودك يا أخي.. لكنها تسببت في ربكة بين السطور.. ربكة كبيرة.. رجاء تصرف". ازداد توتر ناصر وقال بخوف: "ماذا أفعل يعني؟". ضرب المسؤول الكبير بيده على الطاولة، انتزق على إثرها الجميع وقال: "ناصر.. يعني تريد مني أعلمك شغلك.. اذهب واطبع جدول الأعمال مرة أخرى.. هيا".

   اندهش مسعود لهذا الطلب، وتساءل بغضب بينه وبين نفسه: "ما هذه العقلية؟ ماذا سيضر وجود هذه النقطة الجميلة هنا، لماذا يعتبرها هذا المعتوه جريمة؟ ما هذا الاجتماع؟". جمع ناصر الأوراق من أمام الحضور، لأن جميعها كانت ملطخة بالنقطة السوداء بسبب رداءة حبر الآلة الطابعة. وخرج متوترا. وبعدها دخل رجل وهمس في أذن المسؤول الكبير، فخرج من القاعة. كان مسعود متعجبا وصامتا. وبدأ يكلم نفسه: "المسؤول الكبير يهتم لأصغر وأبسط الأشياء، هل هذا من حرصه على العمل؟ لماذا لم يتخلص من شامته؟ ولماذا خرج؟ هل ذهب وراء ناصر ليعلمه شغله ويساعده في طباعة الورق، وليتأكد بنفسه من عدم وجود النقطة؟ أظن بأن الوقت غير مناسب للحديث معه عن البعثة، فهو شخص عصبي، كما أنه استهزأ بالشعر وبالجمال". أمسك القلم وبدأ يرسم أشكالا بنقاطه المعتادة، فشعر براحة، وأردف محدثا نفسه: "ربما خرج ليوقع البريد، أو خرج ليجري مكالمة مهمة مع مسؤول آخر".  استمر مسعود في العمل على الورقة، ورسم دوائر ومربعات. وبعد نصف ساعة رجع ناصر ومعه رزمة أوراق جديدة، سطورها منظمة ومرتبة، ولا يوجد فيها أية نقطة سوداء. وظل الجميع لفترة في انتظار عودة المسؤول الكبير. وخرج المقرر، ورجع ليقول للحضور بأن المسؤول الكبير طال عمره ارتبط بعمل آخر وأن الاجتماع تأجل إلى وقت آخر.

   ضحك مسعود بصوت عال. التفت إليه جميع المسؤولين. حدجوه بنظرات ارتياب. انتبه مسعود لنظراتهم. توقف عن الضحك. وقال: "لا عليكم، أنا تذكرت النقطة فقط". بعد ذلك وجد مسعود نفسه وحيدا في القاعة. تأمل الغرفة التي صارت خالية من المسؤولين وقال: "تأكدت الآن بأنه ليس الخلاط الآدمي الوحيد". ظل الفراغ يسبح بين الأثاث. انتابته نوبة أخرى من الضحك، وقال: "سأرسم خريطة من النقاط السوداء، وخرائط من الشعر". ثم فتح الباب وخرج. أحس بسعادة حينما تذكر بأنه راجع إلى مكتبه الصغير، وأنه سيلتقي مجددا بزملائه، فقد اشتاق لرؤيتهم.