الخميس 16 مايو 2024

عندما يفتح الكيس

12-2-2017 | 13:51

هلال البادي - له عدة نصوص مسرحية وروايات ومجموعات قصصية منها "مجرد خيال عابر"،"تنهشه الفئران"، "الدخول مجاني".

  جروني إلى غرفة ضيقة، ولم ينزعوا عني الكيس الأسود الذي وضعوه على رأسي منذ القسم الخاص وإلى هنا حيث لا شيء يبشر بأني خارج في القريب العاجل. قد فقدت كل أمل في أن ينتهي هذا السواد الذي بدأت أعيشه، منذ اللحظة التي اتصلوا فيها على هاتفي وقالوا: تعال، نريدك في دردشة قصيرة!

   لم أذنب في أمر سوى أنني أكتب، أبتكر شخوصا وحكايات وأكتب، أعبر عن رأيي الذي كفله لي القانون، ذلك الرأي الذي لا أظن أنه مؤذٍ أو مخيف. وكم كنت غبيا عندما فكرت بمثالية طوباوية، لا أحد اليوم يفكر مثلي في أن القانون يمكنه أن يكون الحامي والضامن وحبل النجاة، لا أحد سواي يريد الخير لهذي البلاد الموشكة على السقوط في هوة عميقة بلا قرار، وحدي أبصر النهاية المأساوية التي ستحل بنا يا حبيبتي، هذي النهاية التي أخشى أن تسقطي فيها كالآخرين، ككل من لا يفكر ولا يحاول أن يفكر ويتدبر كي يكون كائنا صالحا يساهم في الحياة بشكل إيجابي! إنهم لا يفكرون إلا في أنفسهم، وهذه هي الطامة!

آآآه من هذا العذاب الذي أعيشه الآن، كم هو موجع ومؤلم حد النخاع!

    كل ما أردته هو أن أكتب وأن أعيش في سذاجة حلمي الذي طالما حكيتُ لك عنه، وكنت أنصت لك وأنت تخبرينني عن تفاصيل حياتك المرهقة والمتعبة وكم أن هذه الحياة قاسية للدرجة التي جعلتك تستدينين فيها من أجل أن يضمن والدك نصيبه منك قبل أن يأتي الزوج فيأخذك ويأخذ البيضة التي تبيض الذهب كما كنت تقولين! لذلك لم تفكري في الزواج، واخترت طريقا صعبا خاصة بعد وفاة أمك، وانتهاء كل المسئوليات إليك، مسئولية منزل كبير بالأرواح التي فيه، رغم أنه منزل يتكون من ثلاث غرف وصالة ويحتل مساحة لا تتجاوز الثلاثمائة متر مربع تسكنونه بالإيجار، وبت تدفعين هذا الإيجار وحدك الآن، أما أبوك فقد أراد أن يعود إلى سن الشباب: تزوج امرأة مقاربة لعمرك، واشترى لها بيتا مستقلا ومحل تجميل، لا لكي تعمل فيه، بل لكي يكون نقطة التقاء العشاق والمحرومين والفاسدين.

   كنت أريد أن أكتب عن الفاسدين، هؤلاء الذين لم يتركوا شيئا جميلا إلا وأفسدوه، هؤلاء الذين أنا الآن هنا بسببهم، ورأسي مدفون في كيس أسود كي لا أرى مدى السوء الذي يعاملون به كل حر فأكتب يوما عنه.

   لكني أكتب الآن في رأسي هذي الرسالة المطولة إليك، وأدرك أنهم لا بد سيخلعون الكيس كي أرى وجوههم الشامتة والبشعة في آن، أكتب إليك وأنت الضوء الوحيد الذي يشع في حياتي المبعثرة منذ بدء هذي الأحداث، وجهك طوق نجاتي يا حبي الوحيد، أستمد منه طاقة هائلة كي أشمت بابتسامة عريضة في وجوههم القميئة.

   لم يطل الأمر كثيرا حتى فُتح الباب الثقيل وجاء أحدهم وانتزعني من الأرض الباردة وجرني إلى مكان لا أعرفه، تبين لاحقا أنه مكتب التحقيق، هناك نزعوا الكيس لأفتح عيني على أربعة جدران كالحة.

    كانوا قد أجلسوني على كرسي كتلك الكراسي التي عادة ما نشاهدها في مشاهد التحقيق، لكنه كان كرسيا معوجا غير ثابت، وصغيرا لا يتسع لي، وعلى ما يبدو أنه، بكل ما فيه من سوء، كان واحدا من أدواتهم المتعددة للنيل ممن يأتي إليهم في ذلك المكان المفصول عن العالم.

   لكني لم أكن أبالي، كنت أفكر فيك أنت فقط، ولم يعد يعنيني هذا العالم الذي بات قريبا من هاويته، كنت أفكر في آخر لقاء جمعني وإياك قبل أن تحدث كل هذي الأحداث: كان يوما صحوا قررت فيه أن أنسى شخوصي الروائية قليلا ومشروعي، وأنطلق إليك وأراك مهما كنت مشغولة في عملك، مهما كان ضحايا الطرق كثرٌ في ذلك الصباح، ومهما بدا الطريق إلى مستشفى خولة طويلا ومزعجا كعادته، لكن المهم أن ألتقي بك.

   اتصلتُ بك وتأخرتِ في الرد بحجةِ حادثِ الدهس الذي وصلكم ضحيته فأدخلتموه إلى غرفة العمليات فورا، وقلتُ لك لا يهمني أي شيء من ذلك، ما يهمني هو أن أراك! كنت سعيدا في ذلك الصباح وقد أنهيت الفصل الأخير من روايتي الجديدة، وكنت أريد أن أحتفل بطريقتي، وأنت كنت طريقي!

   أعرف أنك تحبينني ولذلك كنت ستوافقين على أن تتركي عملك لنلتقي في عش الحب الذي صنعناه مذ عدة سنين، الذي لم يكن يبعد كثيرا عن مستشفى خولة. هناك في شقق منام التقينا لأول مرة قبل عامين، هناك نقشتِ على روحي أجمل العبارات، وأفرغتُ فيك كلَّ الحب الذي هربته في رواياتي وقصصي، هناك ابتكرت عوالم جديدة في حياتي، وتعرفت إلى مسارات لم أكن أعرفها من قبل، هل تتذكرين كل ذلك؟ هل تتذكرين لذة اللقاء الأول؟ القبلة الأولى، الأنفاس الحارة، والعناق الذي صهر روحينا في روح واحدة؟ كنت محتاجا لتلك اللحظات، وكنتُ في قمة الانتشاء وأنا أتذكر التفاصيل الصغيرة التي طبعناها في فضاء الشقة التي لطالما كنا نحجزها لموعدنا العشقي الأخاذ.

   وها أنا الآن أستعيض بالحلم الوهمي كي أتخلص من برودة هذا المكان الموحش، ومن نظرات التعالي والحقد التي كنت أراها في وجه كل واحد دخل يطرح أسئلته البغيضة إليّ، تلك الأسئلة التي لا منطق لها سوى الغباء فحسب، ولكنني سأخرج كي أفضح عتمة الليالي والأيام التي أسكنوني فيها ولم يكن لي من ذنب سوى وقوفي مطالبا بالعدل فقط، لا أكثر ولا أقل.

   أقل ما يمكن أن يقال عن نصه الجديد بأنه تحفة! مع أنه لم يكمله حتى الآن وربما لن يكمله، لكنه كان يحدث نفسه بأنه في نهاية الكتابة لن يكون أقل من تحفة!

   كان يبتسم وقد تراجع للخلف وأخذ في فرقعة أصابعه، وثمة شعور بأنه سيحصل على التفوق من وراء هذا النص الجديد والخلاب الذي حالما ينشر سيضعه في مصاف كتاب كبار لطالما سخروا منه ونبذوه، ولن يكون ساعتها وهو يوقع على نسخة من عمله هذا، كاتبا صاحب موهبة رديئة وضعيفة، بل سيكون الأبرز لأنه يناقش موضوعا لم يناقشه أحد بمثل ما ناقشه هو من جرأة وقوة وتعدد مستويات. كان مأخوذا بهذه الفكرة، فكرة تصدره للمشهد الثقافي إبان معرض مسقط الدولي للكتاب، وكم سيكون أكثر سعادة لو وصله خبر بمنع ومصادرة كتابه، فذلك الأمر يعطيه قوة أكبر، وحضورا أكثر!

   صحيح أنه لم يعش التجربة كما عاشها كتاب آخرون لم يتجرأوا بعد على الكتابة عنها، وصحيح أنه في آخر مظاهرة انسحب قبل الاعتقالات بخمس دقائق عندما أرسل إليه ابن عمه في المهام الخاصة أنهم قادمون إليهم ليتم اعتقالهم جميعا، ولكنه سيكون الأفضل والأكثر حضورا وستتهاطل عليه المعجبات من كل حدب وصوب وسيعيش التجربة التي كتب عنها في نصه كاملة غير مجزأة أو مشوشة.

   غير أن ما لا يعرفه هو أنه لم يكن أكثر من شخصية ابتكرتها أنا وكان قدري أن تحدث لي قصة خارج نطاق قصته التي بدأ هو في كتابتها، لكنها متعلقة به هو، ولذلك لا تستغربوا لماذا أسرد أنا هذا الحدث في هذه اللحظة! سأخبركم بما حدث فلا تستعجلوا، وقبل أن نصل إلى ما حدث فعليا علي أن أخبركم بأن هذه الشخصية وهي في قمة انتشائها بما كتبت؛ خرجت في ذلك المساء البارد الذي شهد أمطارا غزيرة على غير عادة مسقط في السنوات الأخيرة، وكان ذاهبا للقاء امرأة تعرف عليها قبل أشهر في مركز لولو الغبرة، يوم كان ذاهبا لشراء هاتف جديد من هناك.

   تصادف أن سقطت ورقة كانت بمحفظته وهو يخرج المبلغ فهبط بجسده إلى الأرض كي يتناولها، وفي اللحظة التي كان ينهض فيها اصطدم بهذه المرأة العابرة التي لم تكن تريد شراء شيء وإنما كانت تتفرج فقط على المعروضات. لم يكن الاصطدام قويا ولكنه كان كافيا لابتسامة تفتح له بابها عندما نطق يعتذر إليها وهي تبتسم قائلة: حصل خير، والخير جاءه في نظرة عينيها وفي تورد وجهها الذي لم يكن جميلا ذلك الجمال الساحر، وفوق هذا كان ينبئ عن عمرها المقارب على نهاية الثلاثين، لذلك بادر أن يعطيها بطاقة "البيزنس كارد" قائلا لها بأنه على أتم استعداد لتعويض نظارتها الشمسية التي تهيأ له أنها وقعت فانكسرت، وما كانت سوى حجة ضعيفة ليعطيها رقم هاتفه.

   لم يطل الوقت، فمساء ذلك اليوم اتصلت به ليأتيه صوتها الرقيق ويفتح بابا آخر معها، والمدهش أن تلك المكالمة انتهت باتفاق على لقاء نهاية الأسبوع. قالت له: أنا أحب الأماكن البعيدة، شو رايك نلتقي في فندق مرحبا في العامرات؟

   لقد سهلت عليه جهد المسافات، إذ إنه يسكن العامرات، المدينة ذاتها التي أسكنها، وقد شهد الفندق الوحيد هناك عدة مغامرات مع نساء كثيرات وهذه هي آخرهن.

   كان قد أوقف سيارته ليس أمام مدخل الفندق مباشرة بل خلفه قريبا من محطة البنزين القريبة لأنه كان يؤمن بضرورة إبقاء عالمه هذا خفيا عن الناس، مصداقا للمقولة التي كثيرا ما يتمثلها "وإذا ابتليتم فاستتروا". نظر نظرة سريعة إلى وجهه في المرآة، وتفقد أناقته ثم رش قليلا من العطر الخاص الذي يضعه دائما في سيارته لمثل هذه المهمات، وترجل من السيارة وخطا عدة خطوات قبل أن يتوقف ويقفل راجعا متذكرا الهدية التي نسيها في المقعد الخلفي، ولولا ذلك النسيان لربما ما كان سيحدث ما حدث، وما كنت التقيت بإحدى شخصياتي في مكان لم يكن مقدرا أن نلتقي فيه.

    كنت في اليوم ذاته قد أخذت إجازة من أجل إصلاح بعض ما ترتب جراء موجة الأمطار التي اجتاحت مسقط كلها، وكنت حينها فقط أدفع خمس ريالات للهندي العامل في محطة البنزين، وكان عليّ أن أمر على محل تصليح وتركيب اللواقط الفضائية المجاور لفندق مرحبا من جهة الشارع العام، عندما أمسكتُ هاتفي لأقرأ الرسالة البنكية التي وصلتني تخبرني بأن رصيدي البنكي هو أقل من ريال واحد فقط.

   في هذه اللحظة التي كنت أطالع فيها الرسالة وكأني أتمنى أن تقول لي عكس ما هو مكتوب، كان هو قد عاود إغلاق سيارته وخطى خطواته الفرحة ولم ير سيارةً هي سيارتي تمشي كتائه في الصحراء، تقترب منه ليحدث ما هو مقدر ومكتوب على الجبين. لم يفد انتباهي المتأخر، ولا دعستي على الفرامل بشدة. تطاير في الهواء كريشة ناعمة، ثم سقط على الأرض الصلبة، وتوقفت أنا مجبرا لأنزل وأرى ما حدث، وكم تمنيت لو أنه واحد من الكلاب الكثيرة التي لطالما صادفتها في الشوارع وكان مقدرا لي أن أصدمها، لكنه كان كائنا بشريا للأسف الشديد، يئن بخفوت عجيب، يئن ويزفر وثمة دم تناثر حوله.

   لم أستوعب لوهلة ما حدث، وقفت مبهوتا أرى إنسانا له كثير من تفاصيلي يتلوى أمامي، ومع يقيني أنه شخصيتي التي كتبتها في قصصي؛ لكنه في تلك اللحظة كان شيئا واقعيا للغاية، وغير قابل للشك، خاصة عندما لم تمض دقيقة واحدة وكان جمهرة من الناس تحلقت حوله. كنت مصابا بصدمة، وكأنني من ألقت به السيارة هناك، ولذلك لم أتحرك، حتى رأيت امرأة تترجل من سيارتها وتتقدم إليه بكل ثقة طالبة من الجميع ممن تحلق هناك أن يفسحوا لها المجال. كانت واثقة من نفسها وبرغم أنني أوشكت أن أمنعها من الاقتراب منه؛ إلا أنها قالت: أنا ممرضة بمستشفى خولة، اطلب الإسعاف بسرعة.

   كنت فعليا قد اتصلت وطلبت الشرطة والإسعاف، وأكدت لهم بأني من ارتكب الحادث، أما هي فقد طلبت من الفتاة التي كانت برفقتها أن تحضر عدة الإسعاف. أخذت تتفقد جسده فيما هو يواصل أنينه الخافت، ثم طلبت من الفتاة التي برفقتها أن تساعدها، بعدها أخذت تنظف بعض الجروح النازفة وتضمدها، أما أنا فقد عاودت الاتصال مجددا بالطوارئ كي أصرخ فيهم بأن يستعجلوا في مجيئهم.

    كنت أردد في داخلي وأنا أرى تلك الشخصية الملقاة على الأرض، التي تئن ذلك الأنين الخافت والموجع، بأن الأمر لا يعدو أن يكون قصة بائسة كتبتها، أو حلما سيئا راودني في المنام وما أنا الآن إلا واحد نائم على سريره في ليلة ماطرة، أواصل حلمي سيء الذكر.

لكنه على الإطلاق لم يكن حلما أحلمه حينذاك... حينذاك لم يكن أمامي سوى أن أبدد أحلامي العريضة التي كنت أرسمها في عقلي، فما فعله هذا المأفون هو تبديد كل حلم ممكن! هو لم يبددها فحسب، بل قتلها كأي مجرم نذل!

   من يحسب نفسه هذا الكاتب كي يسلبني من أحببت بجرة قلم؟ من يحسب نفسه عندما يأتي بكل وقاحة ويسأل عن ضحيته ويقول أنا من صدمه قبل ساعات؟ يقولها وثمة فرح داخلي أكاد أراه، ثم يأخذ في تأملي عاقدا حاجبيه لكأنما أدرك أنني هي فتاة شخصيته الممرضة المسكينة التي عليها الآن أن ترى أحلامها تذوي.

   هل يفرح أحد بجريمته؟ إنه هذا المدعو كاتبا، وقد رأيته بأم عينيّ، رأيت فرحا كبيرا في عينيه، وكأنما أرواح الناس لعبة في أيادي أمثاله من المجانين والمرضى الفصاميين.

   كان بودي أن أقول له كلاما ثقيلا، أن أهدر بصوت عال بسيل من الشتائم، أن أوبخه على فعلته الهوجاء، ولكنني اكتفيت أن أدله على غرفة العناية المركزة، حيث يرقد من أحب، الذي عندما دخلوا به المستشفى ورأيته حتى فجعت ولم أقو على الحركة، تباطأت وأنا أرى زميلاتي وزملائي مع الأطباء يجرونه فوق ذلك السرير إلى غرفة العمليات.