السبت 27 يوليو 2024

هل يقبل الأفريقي أن يكون أبيض البشرة؟!

مقالات21-11-2022 | 11:26

 وحينما يرد على الخاطر قضية استعباد الإنسان الأبيض لذوي البشرة السمراء، أفزع ويصيبني الاشمئزاز، كيف يمكن قبول استعباد شخص لا لشيء سوى أنه خلق ببشرة سوداء، أمرٌ لا دخْل له ولم يكن محل اختياره، وكذلك صاحب اللون الأبيض لم يختر لون بشرته.

لحظتها يجري على اللسان هذان البيتان للشاعر اللبناني ( إيليَّا أبي ماضي ) حيث يقول : "يا أخي لا تمل بوجهك عني .. ما أنا فحمة ولا أنت فرقدْ"، "أنت لم تصنع الحرير الذي تلبس .. واللؤلؤ الذي تتقلدْ".

صحيح أن الشاعر ( إيليَّا أبا ماضي ) أراد تذكير المتكبر الأبيض بأصل خلقة البشرية؛ فكلها تعود إلي الطين متمثلا في أبي البشرية ( آدم ) وما اسمه إلا من الأدمة، وهي لون السمرة، وأراد تذكيره أيضا باحتياجه إلى سواه ممن يجيدون مالا يجيده فهم أهل فضلٍ عليه بصناعة الحرير أو غيره مما يستر عورته، أو بذلك اللؤلؤ الذي يثير غروره.

لكنني لم أكد أنتهي من ذلك التحليل الذي حاولت إقناع نفسي به، سألْتني نفسي سؤالاً، لماذا يقف أصحاب البشرة السوداء موقف المدافع المطالب بالمساواة؟!! أو بصيغة أوضح.. لماذا لم يتباهوا بسواد بشرتهم ويقابلوا فخراً بفخرٍ أشد؟!! سؤالٌ وجيهٌ فعلاً!!

ولأنني وثيق الصلة بـ ( أغربة العرب ) شعرا وتاريخا وأتفهم عقدة اللون الأسود عندهم.. ولا تعتبوا فلست صاحب التسمية؛ فهم ثلاثةٌ من مشاهير العرب، وإنما سُمُّوا أغربةً، لأن أمهاتهم سود، عنترة بن شداد العبسي، وأمه زبيبة، وخفاف بن عمير الشريدي، من بني سليم، وأمه ندبة، وإليها ينسب، وسليك بن السلكة السعدي، وكانوا شعراء شجعان، لكنني أتذكَّر كيف طوَّع عنترة لونه للفخر به حينما قال : " وأنا المنية وابن كل منية * * وسواد جلدي ثوبها ورداها " لكن ذلك أمرٌ نادر الحدوث، أما وأني أطيل التأمل في الأدب الأفريقي إحساساً بالتقصير في حق نفسي في الاغتراف من ذلك المنجم الرحب.

فقد وجدت إجابةً حقيقيةً لما تثيره نفسي من تساؤلات كثيرةٍ أراها في محلها.. لماذا لا يتباهى ذوو البشرة السمراء بسواد بشرتهم ويقابلوا فخرا بفخر أشد ؟!! لأجد الكثير من الشعراء الأفارقة يعالجون ذلك الطرح بصورةٍ رائعةٍ، لأنتخب من ذلك الإبداع قصيدتين رائعتين؛ الأولى بعنوان ( أشكرك يا إلهي ) للشاعر الأفريقي برنارد دادييه من كوت ديفوار، والثانية بعنوان ( أبدا لن يصير الأبيض زنجيا ) للشاعر الأفريقي ليون كونتراس داماس.

ولأن الشاعر الأفريقي برنارد دادييه علامةٌ بارزةٌ في الشعر الأفريقي فسينفرد بالمقال القادم، وتكون القصيدة الثانية مجال العرض في هذا المقال ( أبدا لن يصير الأبيض زنجيا ) للشاعر الأفريقي ( ليون كونتراس داماس ) :

أبدا لن يصير الأبيض زنجيا

لأن الجمال أسود ... والحكمة سوداء

و التحمل أسود ... والشجاعة سوداء

لأن الصبر أسود ...والحديد أسود

والجاذبية سوداء....والشعر أسود

والإيقاع أسود .... والفن أسود ... والحركة سوداء...

لأن الضحك أسود ... والمرح أسود ...والسلام أسود

وسوداء هي الحياة !!

رغم قِصَر القصيدة إلا أن الشاعر ( ليون كونتراس داماس ) اعتمد فيها على التكرار بما له من أهدافٍ بلاغيةٍ ولغويةٍ؛ حيث يكرِّر مفردة ( أسود ) و ( سوداء )؛ فتأتي خبراً في الجملة الإسمية قاصداً التركيز على أهمية اللون ومركزيته في موضوع القصيدة، وهذا مقصود الشاعر فاللون يتكرر في كل الأسطر الشعرية، ولا يخفى عليك أيها المتأمل ما في هذا التكرار من دلالات مقصودة لبيان قيمة اللون من منظور الشاعر ورغبته في جذب انتباهك .

كما أنشأ الشاعر النص على إعادة تشكيل عناصر الحياة المحيطة به بما يتفق ومعتقداته ورؤاه، ولذلك يشيع في النص الجمع بين المعنويات والمحسوسات في باقة أنيقة يعيد الشاعر ترتيبها من زاوية الرابط اللوني، الذي يعتبره الشاعر أصل الحياة وسرها؛ فـنجده يجعل من ( الجمال والحكمة والتحمل والشجاعة والصبر ) وكلها معنويات يجعلها مرئيةً للعيون باستخدام اللون، ويخلط المادي بالمعنوي في ( الحديد والجاذبية والشعر والإيقاع والفن والحركة و الضحك والمرح والسلام) وهي كلها عناصر تحيط بالإنسان يجعل مصدرها اللون الأسود، ليأتي ختام النص محيرا يخرجنا من دائرة التوقُّع، ويجعلنا نعيد قراءة النص ثانيةً؛ حيث اختتم الشاعر قصيدته بهذه الجملة العجيبة ( سوداء هي الحياة ! ) أكان الشاعر يقصد الحياة التي لا يستغنى عنها؟! أم يقصد الحياة بسوداويتها الطاغية، والتي تثير في النفس البشرية أسوأ ما فيها من مطامع وحروب وسفك الدماء؟! العبارة مكتنزة ثرية وتحتمل.