عبد الله حبيب - له مؤلفات متعددة منها "قشة البحر: في سرد بعض ما يتشبث" (قصص)، "مساءلات سينمائية" (نقد)، "صورة معلقة على الليل: محاولات في الشعر والسينما والسرد"، "ملاحظات في السينماتوغرافيا" لروبير بريسون (ترجمة)، دمشق، 1998.
أدري أن ما حدث لحندول المسكين قد حدث، وسيحدث لغيره، من أول الخلق وحتى يرث الله الأرض وما عليها، ولذلك فإنه ينبغي "التماسك والتحلي بالصبر وقبول القضاء والقدر، وانتظار العوض من الله الوهاب الذي وسعت قدرته كل شيء"، كما قال أهل الحكمة والوقار في القرية، والذين شددوا على العبارة حين قدموا نصحهم الصارم هذا، بصورة خاصة، لوالد حندول المقرفص بلا حراك أمام العريش، وقد فغر عينيه ذاهلا كمن أصابه مس، محدقا في الوجوه المشفقة باحثا فيها عما يمكن أن يعيده إلى صوابه، ولأمه النائحة التي قبضتها من ذراعيها امرأتان من الجيران كي تحولا دون أن تهشم الثكلى صدرها ورأسها بلكمات قبضتيها المسعورتين.
ما حدث لحندول ذي العشرين سنة، أو نحو ذلك، والجسد الأسمر السامق، والابتسامة البخيلة، أنه خرج، كعادته، في هذا الصباح إلى البحر، ولم يعد. خرج إلى البحر كي يأتي بما ربما يكون قد علق بشبكته الجديدة التي تركها هناك في الأمس، لكنه لم يعد. كل القوارب عادت إلى الشاطئ عند الظهيرة إلا قارب حندول.
حين مالت الشمس إلى النصف الغربي من السماء أيقن الجميع أن ثمة مكروها لا بد أن يكون قد حدث لحندول ذي العشرين سنة، أو في حدود ذلك، والجسد الأسمر السامق، والابتسامة البخيلة. ولذلك خرجت ثلاثة قوارب للبحث عنه، وعادت حين أوشكت الشمس أن تميل إلى الربع الأخير من السماء. كانت القرية برمتها متكدسة تنتظره وكأنها كانت تتناسل على الشاطئ منذ عشرين سنة، أو نحو ذلك، حتى لا تفوتها مشاهدة عودته، وكان حندول ممددا، في قاربه الذي سحبه أحد القوارب الثلاثة، على ظهره بلا حراك، ولا كلام، يداه مكفوتتان على صدره، وعيناه مفتوحتان على الفضاء، والسحب، والنوارس التي كانت تحلق زافة موكب القوارب الأربعة، والغربان التي جاءت من جهة النخيل واختلطت بالنوارس القادمة من البحر.
قال الصيادون الذين عادوا بالميت إنهم وجدوا قارب حندول يتمايل مع الموج، ومرساته ملقاة في القاع، وقد طفت فلينات الشبكة على الماء، بينما أخذت النوارس تحلق صامتة في دورات تنداح في المكان. أما حندول فقد وجدوه، إضافة إلى سمكتين حمراوين حيتين في الشبكة الجديدة – "كان منكبا على بطنه في قاع الشبكة وذراعاه مفرودتان في الماء وكأنه يسبح"، قال أحد الصيادين وهو يهز رأسه يمينا ويسارا دلالة العجب والأسف والحسرة. ويقول الصيادون الذين عادوا بالميت ما يخمنه الجميع، أي أن حندول لا بد أن يكون قد فقد توازنه على حافة القارب وسقط في البحر أثناء محاولته تخليص السمكتين من الشبكة. كان حندول سباحا ماهرا بشهادة الجميع، وتتذكر قريتنا أنه تمكن، قبل سنتين، من العودة إلى الشاطئ سباحة في البحر المجنون بعد أن أغرقت ريحٌ مفاجئةٌ قاربه الصغير. لكن الصيادين يقولون ما يظنه الجميع أيضا، أعني أن الذي لا بد أن يكون قد حدث أن الشبكة قد التفت على ذراعي وساقي حندول بحبالها وخيوطها فور سقوطه في الماء، وأنه حاول تخليص نفسه بأقصى ما أوتي من قوة، بدليل وجود بعض الخيوط الممزقة في أعلى الشبكة الجديدة، ولكنه، كما هو واضحٌ ومؤسفٌ، لم يفلح. ويقول الصيادون إنهم تركوا الشبكة الملعونة في مكانها وفيها سمكتان حمراوان تسبحان.
لا أدري لماذا أخبرني حندول البارحة بسره وعويشيه البكماء، الصبية التي تسكن مع أهلها في المزارع التي تحد القرية من الغرب. لقد باح لي بأنه يلتقي عويشيه كل ليلة بعد نحو ثلاث ساعات من صلاة المغرب. تأتي هي، وقد رشت على ثوبها شيئا من عطر ليموني الرائحة، وتقف، عند حد المزرعة، وراء الحظار الشوكي الهزيل. ويجيء هو وقد وضع مقدارا من دهن العود الهندي يكفي لتضميخ النسمات الشحيحة التي تراوح في الليل الرطب بينه وبين عويشيه، ويلتقيها واقفا على حافة الطريق المعتمة أمام الحظار، متلفتا بحذر يمينا ويسارا ترقبا لعابر مفاجئ في الحلكة. هكذا، كل ليلة، منذ شهور وشهور، يتلامسان بالأيادي، تكلمه بابتسامتها ويحدثها بلسانه، يستمع إليها وتستمع إليه وهما يسمعان هسهسة الليل، وتنظر إلى عينيه بعد أن تعطيه زهرات ياسمين منسوجة في قلادة صغيرة، وتحدق في السماء المنسوجة بالنجوم، وتواصل الاستماع إليه. "لكننا اتفقنا أنني سأجيء بحصيرة ليلة غد، وسأنفذ من خلال فجوة في الحظار إلى داخل المزرعة، وسأفرش الحصيرة"، وابتسم ابتسامته البخيلة. هذا ما قاله لي الميت البارحة، ولا أدري.
غسلوه بالماء والسدر، وعطروه بدهن العود الهندي، وبخروه باللبان الظفاري، وكفنوه بالقماش الأبيض الناصع الذي اشترك في دفع قيمته الجيران، وأنا كنت أنظر إلى عينيه وهما تغلقان للمرة الأخيرة. وحين غربت الشمس خرجنا نمشي وراءه إلى المسجد لنصلي عليه ثم ندفنه في المقبرة المحاذية لمزرعة أهل عويشيه البكماء، مرورا بالطريق التي كان يقف بها في مواعيده الليلية مع الصبية. ولا أدري إن كانت عويشيه قابعة ترقب، من مكان ما في المزرعة، ركب الجنازة حاملا حندولا ليطمر في حفرته المظلمة.
أظن أني أدري أن ما حدث لحندول المسكين قد حدث، وسيحدث، لغيره، من أول الخلق وحتى يرث الله الأرض وما عليها، ولذلك فإنه ينبغي "التماسك والتحلي بالصبر وقبول القضاء والقدر، وانتظار العوض من الله الوهاب الذي وسعت قدرته كل شيء"، كما قال أهل الحكمة والوقار في القرية، وأدري أن عددا من صيادي قريتنا قد ماتوا في غرقات متفاوتة الشبه بغرقة حندول، حيث لا يمر عامٌ على قريتنا دون أن يغرق صيادٌ أو اثنان. ولكني، وأنا أسير صامتا وجاهلا وسط الحشد الـمهلل، والمكبر، والمحوقل، وراء النعش الملفوف بحصيرة ممزقة لفت محفوظة ولطيفة قبل سنوات، كما طوت جثامين كل من مات من أهل قريتنا، صغارا وكبارا، رجالا ونساء، ابنة الصياد العريق، وسليمان الأعور، وغيرهم، كنت أتساءل: كيف يمكن لحندول ذي العشرين سنة، أو نحو ذلك، والجسد الأسمر السامق، والابتسامة البخيلة، أن يصدق أنه ميتٌ الآن، وأنه لن يخرج إلى البحر غدا، ولا بعد غد، ولن يلتقي عويشيه على حصيرته الليلة، ولن يراها أبدا؟ كيف يمكن له أن يصدق ذلك؟ كيف؟