الجمعة 17 مايو 2024

ما سمعت أذان الملائكة؟

12-2-2017 | 14:15

عبد العزيز الفارسي - من مؤلفاته "تبكي الأرض.. يضحك زحل" (رواية)، ومجموعات قصصية منها "جروح منفضة السجائر"، "العابرون فوق شظاياهم"، "لا يفل الحنين إلا الحنين"، وكتاب "قريبا من الشمس.. حوارات في الثقافة العمانية" (بالاشتراك مع سليمان المعمري)

بعد شرب خميس وجمعة للكأس السادسة في جلستهما السرية خلف ملعب العقر -والتي حرصا على المواظبة عليها بعيدا عن معرفة بقية الأصدقاء تجنبا للتشهير وكثرة الضوضاء – وقعت حادثة لم يكونا يتوقعانها.

        كانا قد التقيا في العاشرة المعتادة، بعد أن هدأت حركة الناس، وانقضت الصلوات، وأنهى الآباء المتعبون تسوّقهم اليومي للحاجات التي تتفتق بطلبها المدارس من أولادهم كل يوم. ومضى كل الحالمين بغد أجمل بأكفان يومهم الفائت إلى فراشهم، تاركين الليل لعشّاقه.

        ولم يكن في الجلسة مذ بدأت وحتى تلك اللحظة العجيبة أي جديد: نفس الأحاديث عن عمل خميس سائقا في الإمارات - منطقة "حتا" التابعة لإمارة دبي تحديدا – ومقارناته اللامنتهية بما يرى وما يعيش، ومخاوف جمعة من صدق التنبؤات بوقوع ضرر صحي له في المستقبل لعمله في مشروع مصفاة صحار، والتي لا يضاهيها سوى خوفه من ترك نفس العمل الآن والانضمام إلى آلاف العاطلين عن العمل.. نفس الأحاديث عن المنازل القديمة المكتظة بالأفواه، وعن إحباط الآباء المسنين الذين خسروا رهانات الانتظار. وتلك الأحاديث المكرورة عن أحلامهما المستقبلية.

        لكن السماء تغيّرت تماما فجأة، واسودّ وجه القمر، وساد الفضاء الفسيح صمتٌ مطبق بدا لخميس أنه ضربٌ من التهيئوات، ولكي يطمئن نفسه قال لجمعة: "شكلي ثقّلت في الشرب.. أشوف الدنيا اسودّت مرة وحدة"، وابتسم محاولا النظر إلى وجه صديقه عبر الظلام الطاغي. ومرّت لحظات أخرى أكثر وحشة قبل أن يأتي رد جمعة: "أنا بعد أشوف الدنيا اسودّت.. قلت لك كم مرة لا تجيب خمر من عند بابوه. هذي آخرة الخمر الرخيص.. تو بننعمي ولا بنحصل حد يرجعنا بيوتنا". وحين أكمل جملته، وقبل أن يتبعها بالقهقهة التي خطط لإطلاقها لطمأنة نفسه وصديقه، انتشرت في السماء من أماكن متفرقة أصوات الأذان المتداخلة مع بعضها، في مزيج أضفى رهبة على كل شيء حولهما، وصدمهما بعنف.

        ومع استمرار نداءات الأذان المتداخلة، وازدياد تجهم السماء، كان الاثنان يرتجفان دون إصدار أدنى صوت، وتصطك أسنانهما، ورميا بالكؤوس، ثم رميا بأنفسهما على الأرض، واحتضنا بعضهما كطفلين مذعورين تلطخا بالدمع، يشدان على بعضهما أكثر كلما علت الأصوات.

وفجأة انقطعت كل نداءات الأذان. همس جمعة بصوت متحشرج: "قامت القيامة يا خمّاس.. خلاص بيحشرونا أنا وأنت وهالغرشة"، وانتفض خميس هلعا، متخلصا من حضن صديقه: "وابوي.. وابوي.. القيامة؟!! قول غير هالكلام. أكيد احنا سكرانين. الله ياخذك يا بابوه". جلس جمعة، ونظر إلى السماء فرأى الظلمة أشد. قال:

ـ والله.. أبوي خبرني من زمان.. هكذا يصير يوم بتقوم القيامة! السما تسودّ. وتأذن الملايكة من كل صوب. ما سمعت أذان الملايكة؟

ـ وابواي. هاذيلاملايكة؟ كيف؟ كيف تقوم القيامة والمسيح الدجال ما طلع؟

ـ واحنا شو درانا؟ أكيد طلع واحنا ما نعرف. أنت طول وقتك في حتا وأنا في المصفاة. وما ندري عن الدنيا شي.

   وقام خميس، وأخذ يدور حول صديقه ناظرا إلى السماء وهو يولول: "وابوي.. القيامة. وابوي. النار. وابوي ما تهنينا بالدنيا. ولا سوينا شي للآخرة". وبكى جمعة بصوت مسموع: "أبوي زعلان عليّ عشان ما قادر أساعده بشي. قامت القيامة وهو ما راضي عني". ثم مرّغ وجهه في التراب. وأكب خميس على ركبتيه، ساكبا وجهه على راحتيه.

        وعلت أصوات أذان لتملأ الأرجاء. وأضفى صوتها البعيد الهادئ رهبة أخرى على سواد الليل، ووجد الاثنان نفسيهما واقفين ينتفضان. وصرخ جمعة: "يا الله نروح من هنا. ما أريد أنحشر في هذا المكان. بروح ألحق على أبوي واستسمح منه". وطفق خميس يكوم التراب على زجاجة الخمر، وأعاد جمعة الصراخ: "أنت شو تسوى؟ تضحك على من؟ تراه ربنا شافنا واحنا نشرب منها. شو تخبي؟ خلنا نلحق على أهلنا يحشرونا احنا واياهم بدل هالغرشة".

        تعثر الاثنان أكثر من مرة في الطريق إلى السيارة المركونة على جانب الطريق العام، واختلفا على من يقودها، إذ آثر كل منهما ترك القيادة للآخر، وحسم جمعة الأمر بصرخته المعتادة: "سوق أنت.. خلنا نوصل البيت قبل لا تتزلزل الأرض". وفي الطريق الذي يستغرق عشر دقائق للوصول إلى بيتيهما المتجاورين، قال خميس:

ـ انزين ليش ما نروح المسجد عشان يحشرونا من هناك؟

ـ ذبحتيني. احنا سكرانين. يعني لو يحشرونا من المحراب ما بنشوفها الجنة.

ـ ويوم ما بنشوفها الجنة. ليش ساير تستسمح من أبوك؟

ـ تراه ما يهون علي هو ينحشر وماخذ في خاطره علي عشان وسخ دنيا! سوق يا خماس.. سوق.

   تفاجأ الاثنان لدى وصولهما الحارة أن أهلها قد تجمعوا أمام المنازل رجالا ونساء وأطفالا، وما إن أوقف خميس السيارة حتى فتح بابها وهبط إلى الأرض مسندا ظهره إلى بابها غير قادر على الحراك.. أما جمعة فخرج راكضا نحو أبيه، ورمى بنفسه في حضنه باكيا يقبّل رأسه، ثم كتفه ويديه وأخيرا خر على الأرض يقبل قدميه وهو يقول: "سامحني أبوي. سامحني.. لا تخلانا ننحشر وأنت زعلان علي. والله لو نرجع للدنيا بعطيك كل شهر اللي يرضيك من راتبي. حتى لو أعيش حافي. بس تكون راضي علي".

كانت كل الوجوه تحدّق إليه، وهو يبكي محتضنا قدمي والده، والتف رجال الحارة حوله يحاولون إنهاضه وتهدئته، وهو يزيد تشبثا بقدمي والده: "خلوني استسمح منه. الدنيا رايحة ". وهنا جاءه صوت أبيه قائلا: "قوم.. يا الله اوقف على رجولك" ورأى يد والده تمتد إليه فأمسك بها ووقف محدقا في وجه أبيه المتعب . قال الأب:

ـ مسامحنك دنيا وآخرة. وما ألزمك بشي. اللي تريد تعطاني له كل شهر أنا أقبله.

ـ الله يغفر لك. الله يغفر الله. خفت ننحشر وأنت غضبان عليّ. تو الواحد يشوف القيامة وهو مطمّن.

ـ أي قيامة وأي حشر؟ الحمد لله. المطوّع عبيد صلّى بنا ذيك الركعات الطيبة.. وزال الخسوف. وربك لطف بنا. وما انقلبت الدنيا.

ـ الخسوف ؟ شو يعني؟ ماشي قيامة؟

ـ استغفر الله.. أكيد شي قيامة بس ما الليلة. خسوف وراح. شوف القمر فوق طلع. وانزاحت الكربة... يا الله نروح البيت.

بنظرة تائهة تطلع جمعة إلى القمر المنير، ورأى السماء كسابق عهدها. وضحك غير مصدّق، وركض إلى خمّاس: "ما شي قيامة. ما شي قيامة. خسوف وراح". قفز خميس واحتضن جمعة بفرح: "الحمد لله يا جمّوع. الحمد لله"، ثم تباعدا وأخذا يضحكان كطفلين. ومر عليهما أبو جمعة متكئا على عصاه. وحين اقترب منهما لكز ولده بالعصا قائلا: "ورا باكر آخر الشهر. لا تنسى وعدك يا ولدي". ومضى دون أن يلتفت. بلع جمعة ريقه بصوت سمعه خميس وصمت.

حين أصبحا وحدهما أمام السيارة بعد ذهاب الناس لبيوتهم، قال خميس:

ـ بصراحة من كثر خوفي طارت السكرة.

ـ وأنا بعد. ما أعرف كيف بنام ألحين. بظلّ أفكر في المصفاة والأمراض والراتب التعبان.

ـ ترى ذيكالغرشة مال بابوه بعدها في مكانها. تحت التراب. باقي فيها شي. شو رايك نرجع نكملها؟