شريفة التوبي - لها: نصوص سردية هي "نثار"، "المقعد شاغر"، "سعاد..رسائل لم تصل"
بعد ليلة طويلة من الحلم، تستيقظ القطة النائمة في ذاكرة الروح، اليوم بالذات كانت تشتهي أن تأكل سمكا طازجا على مائدة الغداء، سمكا لا يشبه السمك المثلّج الذي تحاول به إسكات مواء القطة المتعالي والذي يتردد صداه في جدران روحها، تنتعل حنين اشتهاء الحلم الذي راودها ليلة أمس، ترتدي أجنحة نورسة، علّ ذلك يمنحها القدرة على ملء مخابئ الحنين في روحها برائحة البحر وتحليق النوارس وغناء الصيادين، وتقنع عينيها بمنظر سمك طازج تأخذه في تلك اللحظة التي يتم فيها إخراجه من البحر، تسير، تحث الرغبة خطوتها، تستهويها منظر السمكة وهي تتحرك في يد الصياد، تنازع الموت غرقا في الهواء، تعيش ذلك الموت القسري في أعماقها منذ أن ضرب الصياد على رأس سمكة استخرجها من حوض كبير في مزرعة سمك أثناء سفرها لإحدى الجزر البعيدة، ليقدمها لها مشوية على الفحم مع خبز لم تستسغ طعمه فهو لا يشبه خبز أمها الشهي الذي يملأ صباحها برائحته الطازجة، تألمت لموت السمكة الذهبية بتلك الطريقة المؤلمة، قررت ألا تتناول السمك، لكن المزارع المحترف أقنعها أن السمك لا يتألم حين يموت، إنه مجرد موت، تناولت السمك بنصف حواسها في ذلك اليوم رغم الموت، لتنتصر القطة الرابضة في إحدى غرف الروح كما اعتادت.
المكان ملغّم بالبياض، يزدحم بالدشاديش البيضاء ورائحة ما تشتهي يلامس تلك الرغبة المجنونة التي تسكنها منذ البارحة، البياض لغم قد ينفجر في جسدها بأية لحظة كما قالت لها أمها، فتهرب من البياض بسواد تلك العباءة التي لم تقتنع يوما بارتدائها، كما ترتدي تلك القناعات البائسة والخاذلة لروحها دون قناعة بشيء، تموء القطة في داخلها، تغرس مخالبها الحادة في جدار تلك الرغبة الصامتة البلهاء في الحصول على سمكة.
تطل من شرفة الذاكرة سمكة كان يحضرها لها والدها صباح كل يوم جمعة، فتفتح ستائر الحنين في قلبها لرجل كان يحضر لها كل ما تشتهي، ويزرع حكاية حب صغيرة في قلبها المسكون به، لكنها ما كانت تظن أن يخذلها في منتصف الطريق ويمضي، دون أن يعلمها كيف تصطاد سمكة لتسكت بها ذلك المواء المتعالي في أعماق روحها، فمنذ رحيله عرفت طعم الحنين ومذاق الاشتياق لشيء ما كانت تظن أنها ستشتاق له، وهذا الشوق ليس أكثر من سمكة تتحول في يد أمها إلى وجبة لا تضاهي أشهر الوجبات المقدّمة في بوفيهات أرقى الفنادق التي ترتادها بين الحين والآخر، ولم تكن تعلم أن والدها سيورثها أرثا من نوع خاص، وهو يودع في روحها وشهيتها سمكة.
بينها وبين البحر حلم وشاطئ، تتأمل تلك الوجوه العابرة والتي تحمل أكياسا من السمك كوجبة طازجة لغداء يوم الجمعة، هذا اليوم الذي كان احتفاليا بشي أنواع من الأسماك والمأكولات البحرية الطازجة، فالسمك المثلّج يفقد نصف طعمه ونصف قيمته الغذائية كما كان يقول والدها.
تخبئ عينيها بنظارتها السوداء، يفصلها السواد عن البياض، تراقب ذلك المشهد المختزل في ذاكرتها حينما كان والدها يأخذها معه في القارب لصيد الأسماك، تجر معه شباك الصيد، تساعده على رمي الشباك في البحر، يناولها تمرة كي تأكلها، فتطالبه بفنجان قهوة، تشرب قليلا منه لأن القهوة مضرة للأطفال كما يقول لها، وحينما كانت تسأله (ليش القهوة ما زينة) كان لا يجيب، فتعلم أن والدها كان لا يعرف الإجابة، لكنه كان يردد ما تقوله أمها، وحينما تصبح شبكة الصيد ثقيلة يبدأ والدها بسحبها إلى القارب، تتحرك الأسماك داخل الشبكة راقصة للموت ومعه، ما أجمل رقصة الموت!
كانت ترى والدها وهو يختار أنواعا معينة من الأسماك للبيت، يسلّم الباقي للشاب الذي كان ينتظر على الشاطئ، ذلك الشاب الذي يبدو من هيئته أنه لم يبدّل قميصه المتسخ منذ أسبوع مضى، كان يسلّم والدها كيسا مليئا ببيض السمك الذي يحرص الأب على تناوله، تبحث عن وجهه، لكن الملامح تضيع كلها في البياض الذي تحذّرها أمها منه، تتعالى الأصوات، تختلط، تتمازج (بريالين، بعشرة، بعشرين..) هناك من يجر سمكة كبيرة على الأرض.. ويمضي. تتساءل ألا تشعر الأسماك بالألم عند الموت، أم أنه مجرد موت كما قال لها الصياد الغريب في مزارع أحواض السمك؟!
يهدر موج البحر غاضبا، دون أن تعلم سببا لغضبه، النوارس البيضاء الكبيرة الحجم تأكل وجبتها باشتهاء، وتتقاتل فيما بينها للحصول على حصتها من الوجبة، تطير النوارس، تحط نوارس أخرى، تحوم أخرى على بقايا سمكة على الشاطئ، تتقاسم النوارس رغبتها، حلمها، الاشتهاء الذي يسكنها بموت سمكة، تقبض على مقود السيارة وتمضي أدراجها، فالسواد لا يخالط البياض..
تسير بمحاذاة الشاطئ، تبتعد عن تلك الرائحة التي تثير شهيتها بجنون، فتتحول إلى قطة شرسة تغرس مخالبها في سمكة ميتة، تدوس بقدميها الحافية على رمال الشاطئ، تمشى تنظر للخلف لتشاهد آثار أقدامها، تعود مرة أخرى لتدوس على الأثر، تكرر اللعبة التي استهوتها، تضيع آثارها، تسير، تعود، في ذهاب وإياب بطواف لا تدري سببه، تشعر بالمتعة.. تركض.. تركض.. لا أحد يركض وراءها، لا تعلم لماذا تركض، تكشف عن ساقيها، تهدي ساقيها للبحر، يعانق البحر بياضها، يدهن البحر ساقيها بزبده الأبيض، تستهويها لعبة زبد البحر، تستهويها لعبة الاغتسال بملحه، يستهويها الغرق الحنون الذي قد يصل إلى نصف ساقها وأكثر، البحر الذي أحبته وكانت عروسه المنذورة له منذ الطفولة، وما عاد البحر يعرفها ولا يشعر بحنينها، لا يعرف البحر عنها شيئا سوى ذلك الزبد الذي يمنحه ساقيها بكرم كبير كلما أتت إليه لتفرغ ذلك الحنين الذي يملأ قلبها، فتعود وقد امتلأ قلبها بحنين مضاعف، تمسح عن ساقيها زبده، تعود إلى الشاطئ ترسم قلبا كبيرا جدا، تبحث عن كلمة تكتبها داخل فراغ القلب فلا تجد، تترك القلب فارغا على شاطئ ضاق بها وبحنينها ووجدها وجنونها، تعود حينما تكتشف أن البحر ليس لها، تنفض فتات رمله الملتصق على قدميها، تنفض عطر رائحته العالقة بجسدها، تغادر المكان ولا يغادرها الحنين، ولا البحر يمنحها ما تشتهي.
تخلع ثوبها الأسود، ترتدي (البياض)، تختبئ في بياضها، لن تمنح البحر ساقيها، تسير بينهم، تخالط أقنعتهم البيضاء، تضيع بينهم، يضيعون في بياضها، يسكت مواء القطة، توقف خربشاتها على جدران الحلم المشتهى، يغضب البحر كثيرا ثم يهدأ، تهدأ الموجة الثائرة في روحها، تأخذ البحر في يدها وتمضي.