الخميس 16 مايو 2024

جسر معلق

12-2-2017 | 14:27

سعيد محمد السيابي - له دراسات عن توظيف الأدب الشعبي في النص المسرحي الخليجي، ومجموعة قصصية عنوانها "رغيف أسود"، ورواية "جبرين وشاء الهوى".

البحر يمدُ لسانه في اليابسة وهو يجزؤها إلى شاطئين، لكل ضفة شاطئ.

   حلمتُ بالسفر على ظهر سفينة تجوب البحار، لكنني ظللتُ أسافر بين الضفتين اللتين يفصلهما الماء وبينهما قوارب الصيادين.

   أمشي على ذلك الشاطئ وحدي كل يوم، فأتذكرُ الأيام البعيدة التي حملها البحر في ذاكرته. ولدُتُ مبصرا ولكن مرض الرمد الذي غير حياتي أقبل مع رياح الشمال، التي تأخذ السفن لوجهة بعيدة، أطفأ إحدى الحسنيين، وتعثرتْ الأخرى بعد أن أكملتُ السادسة، فتحققت نبوءة جدتي لأمي بأن أصبح معلما للصغار. وقع اختيار إمام المسجد على ابن صديقه البكر ليكون مؤذن الحارة فأصبحتُ الطفل الشيخ. هكذا لقبوني عندما لازمتُ خطى المسجد منذ أن كنت طفلا صغيرا. طفلا عليلا بسببه طلقت أمه. هكذا سمعتها خلسة من جدتي، التي هددت زوجة أبي الثانية بالطلاق إن لم تنجب الولد القوي المعافى. كان أبي يؤمن أن المرأة هي سبب رداءة وقوة الطفل الذي تنجبه، رزق والدي بأولاد كثيرين بعدي صحيحي الجسم ولكنهم يموتون فجأة.

    من تقادير الأيام أن يكون المسجد هو الأقرب لبيتنا بجوار البحر، وفي الناحية الأخرى من الشاطئ ظهرت المدرسة بمقترح قدمه عجوز في المسجد أزعجته فوضى الأطفال في البيت فأراد التخلص منهم.

    صرخ العجوز فينا بأحد الأيام الشتوية بعد الصلاة بأن الأولاد لا بد من إشغالهم بما ينفع لتهذيبهم وتدريسهم علوم دينهم. ولم يجد لهذه المهمة إلا المؤذن لتفرغه الدائم، وملازمته للمسجد.

   حسدني العجوز على هروبي من بيت أبي الذي يكثر فيه الصراخ والصياح بين زوجة أبي وأمه وزوجات إخوته اللاتي يسكن جميعا داخل حوش واحد. لم أتفوه بكلمة واحدة على هذا المقترح الذي سيربطني بهم جديد في الحياة مع أطفال الحارة وبمواعيد ثابتة تقيدني معهم. كم تمنيت ألا يوافقوا عليه كما هو حالهم مع الأمور الأخرى التي سرعان ما يختلفون حولها فيتفقوا على ألا يتفقوا. لكن الله جمع كلمتهم على الاستراحة من مشاغبات أطفالهم التي لا تحتمل، بوضعهم كالمشنقة على رقبتي وهم الذين فروا منها.

    أيد الجميع الفكرة الرائعة، ووقعت المصيبة فوق رأسي. لم يستطع أبي إلا أن يتدخل فجأة، وقال: "هذا المدرس تترتب عليه طلبات. ستكون مسؤلياته كثيرة. نريد تزويجه قريبا، ليعوضه الله بالأولاد نورا في الأرض".

    أراد والدي أن يكون شهما في نظرهم فأصر أن الأمر متروك إلى كل واحد منهم، حسب سعته، وعدد أولاده، والمناسبات التي تمر على المعلم، ويجب أن يتشارك الجميع في تقديم العون له في كل ما يحتاجه. ورغم أنهم صيادون ومساعدون في السفن إلا أنهم وافقوا بعد تردد على المقابل. تعاهد الجميع على إقامة المدرسة. في غمرة الضوضاء أصخيتُ سمعي لما يحدث. لم أسمع صوت العجوز مقترح الفكرة الذي بدا لي أنه شرد بذهنه بعيدا. خُيل لي أنه تحسر على مقترحه، فالمعلم سيحصل على مال ومساعدة دائمة، وفوق ذلك سوف يتزوج. وهو ملزم الآن بالمساعدة. هل يعجبه ذلك يا ترى؟ هل سيزوجني حفيدته أو إحدى قريباته، وقد صرتُ معلما وشيخ مسجد؟ أردت النظر إلى وجهه والتفرس فيه بدقة. حركتُ رأسي بحثا عنه. لم أسمع صوته، ولم أستطع رؤيته. تذكرتُ حينها أنني أعمى. لم أظلم العجوز بخيالاتي، فأنا لم أظلم أحدا. رفع صوته مستوقفا الجميع: "ماذا لو أراد المعلم الزواج بأكثر من فتاة دفعة واحدة؟" تناسى الجميع حرمة المسجد وانفجروا بنوبة ضحك صاخبة. تقلب بعضهم على الأرض من شدة الضحك. استوقفتهم متسائلا بضحكتي المكتومة، وهل قمت بالزواج من الأولى كي أفكر بالأخريات؟ الكثير من النساء في الحياة يسببن الصداع، ولم يدرك العجوز تلك الحكمة التي خبرتها في منزل أبي. انتهى الكلام وبدأ الصيادون الأفعال. انهمك الجميع بوضع اللبنات في مكان المدرسة، وحددوا أوقات بداية وانتهاء الدراسة فيها. أما أنا فكنت أقعدُ على الشاطئ، أشرد عنهم بخيالي الذي حُمِل برغبتي في السفر وركوب البحر الذي حرمت منه. كانت رحلتي اليومية بين المدرسة في الشرق والمسجد في الغرب تفريج لهمي القديم الجديد حيث كان تنقلي بينهما هو إبحاري الدائم بين أمواج الحياة. تزوجت بعد مدة ليست بالقصيرة على افتتاح المدرسة. ولم يف أي من المتعاهدين في المسجد بمساعدتي، فقد مات والدي الحامي الأول للاتفاق ونسي الجميع كلامهم. لكنني استطعت الاعتماد على نفسي في توفير مهر العروس. كنت أقرأ للأموات المصحف كاملا، وأصوم عمن فاته الصيام منهم. كان الأموات هم الأوفياء، وكانوا سببا في إسعادنا على الرغم من غيابهم عنا. ولسخرية القدر أخذ الموت نفسه زوجتي الحبيبة غرقا في الوادي القريب من بيت والديها حين أصرت على زيارتهم، ولارتباطي بالمدرسة لم أستطع مرافقتها، فكان قدرها الرحيل المبكر وقدري الوحدة في هذا العالم.

    لم يكن تعليم الصغار مهمة سهلة. أنهضُ مع خيوط الفجر الأولى للأذان في المسجد الذي أصبح هو الآخر مهمتي الرسمية الإضافية. أصادف الصغار الذين يتفننون ببراءتهم في التهرب من القراءة وخلق الأعذار. انقضت سنوات وسنوات وتبدلت الأحوال، وكبر الأطفال، وأصبحوا معلمين في المدارس التي أقامتها الحكومة والكثير منهم انتقل للعمل في العاصمة. توسعت الحارة كذلك وامتدت يمينا وشمالا، وكبر المسجد الذي توسع هو الآخر عشرات المرات، وزاحمت البيوت المدرسة القرآنية التي حافظت على أبعادها وحدودها القديمة كما كانت. تقدم بي العمر، لكنني واصلت ترحالي اليومي بين المسجد الذي أصبح له إمام ومؤذن من الحكومة يقومان عليه، والمدرسة التي قل مرتادوها بمرور الأيام، حتى أن الكثير من الناس قدم لي النصح بإغلاق المدرسة وطلب الراحة بأن أبقى في البيت، لكن إجابتي كانت مصرة أنه طالما ظل بي قلب ينبض سأستمر بالذهاب إلى المدرسة وأني مازلتُ وفيا بالعهد القديم الذي قطعته قبل عشرات السنين. ازداد الكلام حول صحتي وقالوا إنني أنسى بعض التفاصيل لدرجة أني نسيت مرة نعالي في المسجد بعد صلاة الفجر ومشيت حافيا إلى المدرسة، فطلبتُ من أحد الأولاد الذهاب إلى المسجد وإحضارها لأن رجلي لم تسعفني لذلك. حاولتُ أن أشرح لهم لاحقا أن ذلك لم يحدث، لكن الطفل أبلغ جميع من في الطريق بأن المعلم نسى نعاله في المسجد، هكذا قالوا. لم يشاءوا أن يواجهوني لكن أذني سمعت ما دار فملأتني الغصة. أقبل شيخ الحارة ليبلغني برغبة الحكومة في بناء جسر معلق يربط شاطئ الحارة بالضفة الأخرى، وتكون نهاية الجسر على حدود المدرسة التي يجب أن تزال. ناقشته بحدة عن السبب الملح لإزالة مدرسة وإقامة جسر معلق. ألم يتعود الناس على العيش بالحارة بدون الجسر؟ كانت أمنياتي ترى المدرسة وهي تكبر، ويزداد طلابها، ومعلموها كما هي المدارس الأخرى. لم أتوقع أن معاول الهدم ستطالها يوما. حرص الشيخ على توصيل فكرة الحكومة عن المصلحة العليا التي حتمت ذلك، وأن الجسر سيختصر على الناس الطريق القديم ويكون الأسرع. نعم كان الأسرع في تدمير المدرسة منارة الحارة ومن فوقها أحلامي. قال إن القرار النهائي قد صدر فلا رجوع عنه، وبأنني رجل مخلص ومتفان لخدمة العلم، ولكن الوقت قد حان لتكريمي، وأنهم أحالوني للتقاعد، كجثة رفضها البحر فقذف بها نحو الشاطئ.

    خرجتُ من البيت ربما للمرة الأخيرة، أو قبل الأخيرة لأودع الشطآن القريبة من المدرسة. نظرتُ للبحر كما فعلتُ قبل سنين بعيدة وكتبت وصيتي على شاطئه: فلينحت على شاهد قبري “أعمى قتله جسر معلق، فعسى أن يجتاز كل الجسور إلى الجنة".