الأحد 30 يونيو 2024

حافلة النوم

12-2-2017 | 14:34

أحمد محمد الرحبي - له مجموعة قصصية "أقفال" وروايتان: "الوافد" 2012، "أنا والجدة نينا" 2015.

ما زال الخبز والبيض في جوفه، ساخنين، وهذا يعني أن البكتيريا التي خرجت مع عطسه، ربما ماتت!

    التهمتُ الفطيرة وشربتُ عليها عصيرا حلوا ثم نقدتُ العامل الآسيوي حقه، فأخذه مني وهو منشغل بدعك أنفه المريض.

    خرجت إلى الشارع وقطعت عشرين مترا حتى محطة الحافلات. حرارة الجو لا تقل عن سبع وأربعين درجة وأنا واقف منذ ثلاث دقائق بانتظار الحافلة، وأتمنى من الله أن يعجل مجيئها.. فجاءت بعد ثلاثين ثانية أخرى. حافلة من نوع ميني باص. سحبت الباب إلى الخلف وارتقيت إلى الداخل: "يا رحيم".. ثم توجهت إلى كرسي في الصف الأخير دون أن أغلق الباب ورائي. تعودت أن أتجاهل ذلك في الفترة الأخيرة، تاركا شأنه للجالس بجواره. كان الصف أمامي خاويا. وما بعده أيضا. أما الرابع، خلف السائق وتحت جهاز التكييف مباشرة، فقد برزت منه ثلاثة رؤوس بأحجام متفاوتة: اثنان منها بالعمامات العملاقة المعقوفة للهنود السيخ وواحد بالعمامة العمانية، المصنوعة هي الأخرى في الهند.

    راودني خدر خفيف من رؤية رياح المكيف وهي تهب على الرؤوس الثلاثة فتملؤها بالنعاس وتطوح بها: تتصادم عمامتا السيخ ثم تنفرج الفجوة بينهما ثانية، بينما كان حظ العماني أوفر، عندما أسند رأسه على زجاج النافذة. ولولا هدير المحرك، ولسعات الشمس التي ظلت تبحث عن منفذ إلى داخل الحافلة، لما حال شيء بيني وبين حفرة النوم.

    توقفت الحافلة فاستقامت الرؤوس وتوجهت الأبصار لاستقبال الراكب الجديد. امرأة عمانية سمينة. العرق يسيل في وجهها المنتفخ وفي رأسها وعلى الملابس الكثيرة عليها، وكانت تبدو كمن نجا للتو من غرق محتوم. صَعَدت إلى الداخل مستندة بيدها على حافة الباب وباليد الأخرى خلف كتف السيخ، وقد جعلني لهاثها، ألهث أنا الآخر وأندم على أنني لم أشتر زجاجة ماء من الكافتيريا.

    طلبتْ من السيخ أن ينتقل إلى الكرسي الخلفي، وعندما أجابها بوجه حائر، أفهمتْه بخبطة على كتفه، ثم: "يا الله". وجلست. أما الهندي السيخ، فاستدار إلى الخلف دون أثر للإهانة.. أو ربما لم يهتم بها، لا سيما وأنه سينعم بإسناد رأسه الثقيل على النافذة.

    سارت الحافلة بطيئة، كما لو أن تذمرا أصابها من قسوة الجو! وبعد ثوان، بدأ رأس العجوز بتلك الحركة الغريبة، وأخذ ينوس وهو يصطدم بالعوارض اللامرئية في النوم. في حين قاوم جارها السيخ النعاس خشية أن يصدمها بعمامته. إلا أن مقاومته لم تصمد طويلا، فتراخت عضلة عنقه وبدأت العمامة العملاقة تتهادى في بحر النعاس. وعلى العكس عما كان يفعله مع مواطنه، وجد ألفة مع جارته العجوز، فاتصل رأساهما وغطا في نوم عميق.

٭٭٭

    انحرفت الحافلة بحركة حماسية، فاشتدت العروق في الرقاب واستقامت الرؤوس، فيما اعتلى الوجوه وجوم جامد بعد أن غادرتها دعة النوم. تلفت العماني إلى الخلف ليرمق الركاب الجدد بنظرة آلية ثم أعاد رأسه إلى النافذة.

    كان هناك رزق وفير بانتظار السائق، حيث تدافعت زمرة كبيرة من الركاب إلى الباب، فغاص من غاص منهم إلى الجوف البارد، بينما وقف البقية بشيء من العناد وعدم الرضى، غير مصدقين بأنهم سيقفون دقائق أخرى تحت الشمس. تطاولت أعناقهم داخل فجوة الباب والنوافذ وهم يبحثون عن مكان فارغ. ولم يتركوا الباب حتى نهرهم السائق ملوحا بيده؛ حينها فقط، ابتعدوا بعيدا خلفنا، وانصهروا في لهيب الضوء حتى لم يبق منهم أثر.

    اثنان من الباكستان بلا شيء على الرأس، واثنان عمانيان يعتمران الـ"كمة" الزنجبارية، وأفغانيان.. ربما! بقبعتيهما المزركشتين، ثم هندي آخر بجواري وعماني آخر بجواره، أولئك هم من وجد مكانا في الحافلة، والذين سيجعلونها تسير بلا توقف حتى المحطة الأخيرة.

    شعرت بجسدي ينكمش ويغوص إلى الأسفل حتى انحشر في أعمق زاوية. ولم أكن الوحيد من شعر بذلك، فكل الركاب، ومعهم السائق، كانوا يعصرون أجسادهم وينكمشون في دواخلهم.. مادام ليس ثمة مفر من رائحة الأجساد المتحدة. رائحة استقرت في جوف الحلق وتشبثت به حد الاختناق.

٭٭٭

   لم أعد أرى غابة الرؤوس المتمايلة أمامي، فقد انضممت معهم في رحلة النوم. أو لعلها إغماءة أخذتنا جميعا بعد أن كمشتنا الرائحة! ومر وقت طويل وأنا غائب. كنت ألهث وأسمع أنينا يصعد من داخلي. وأنينا بجواري ومن حولي. كانت أشياء باهتة تعبر مسرعة أمامي ثم لا تلبث أن تهوي في جوفي، فتقلصت أمعائي وخرجت منها الفطيرة والعصير الحلو وقد غدا طعمه مرا لا يطاق.

    وبعد زمن لم يسعني حصره، سمعت من يقول لي إن السائق استسلم للنوم فساق نفسه للهلاك، ومعه عدد وافر من الركاب. لم أسأل عن العدد الذي ساقه معه أو حتى عن أولئك الذين ظلوا يحملون رؤوسهم المنحنية.. ويستطعمون مرارة العيش.