انتهينا في مقالنا السابق أن الأديان الهندية تروي لنا قصة الوحدة والاستمرار، كما أن التنوع المدهش في الديانات الهندية يعود إلى اندماج عدد من الديانات المختلفة المتباينة في الأفكار الدينية الهندوسية. فقد درج القدامى على عبادة قوي الطبيعة وصورها في أساطيرهم وترانيمهم. لذلك كان هذا المقال هو بادئ الطريق لمعرفة طبيعة العلاقة بين الفلسفة والدين في الفكر الهندي، والآن سنستكمل الطريق من خلال مقالنا هذا حول الفكر الديني في عصر آخر أو بمعنى أدق في فكر آخر وهو الفكر اليوناني. لنتساءل هنا، هل توحدت الرؤى الدينية بين الفكر الهندي والفكر اليوناني أم اختلفت وطرأ عليها التحول والتطور؟
ينظر معظم علماء الاجتماع إلى فكرة الألوهية عند اليونان، باعتبارها أفضل النماذج التي تدلل على ارتباط فكرة التأليه بطبيعة المجتمع وثقافته السائدة. ومن ثم يردون كثيرة الآلهة اليونانية وتعددها للطبيعة الجغرافية والسياسية والاجتماعية لبلاد اليونان، التي كانت تقضي بضرورة وجود معبود قوي لكل مدينة يقم بحمايتها ضد الغزاة، ويحفظ على الأسرة تضمنها، ويعمل على تآلف السكان ويوحد ولاءاتهم. والسؤال الآن، هل كان اليونانيون يؤمنون بإله واحد أم بأكثر من إله؟
يقسم المؤرخون الآلهة اليونانية إلي سبع شعب هي آلهة السماء، آلهة الأرض، وآلهة الخصب، والآلهة الحيوانية، وآلهة ما تحت الأرض، وآلهة الأسلاف أو الأبطال، أو الآلهة الأوليمبية. وقد اختلفت الآراء حول أصول هذه الشعب. فذهبت بعض الدراسات إلى رد آلهة الأوليمب والسماء إلى الأخيين، ورد دونها من الألهة الأرضية إلى البلاسيجين. في حين تخطيء دراسات أخري هذا الزعم وتحتج على ذلك بوجود العديد من ربات البلاسيجين والموكينيين في الإلياذة والأودسة من أمثال هيرا وآلهة أخي شرقية من أمثال أثينا وأبوللون وأفروديتي. ولكي تضح لنا الصورة بشكل أكثر اتساعًا وأدق تفصيلاً، سنتجه إلى اخذ لمحة موجزة عن الفكر الديني لدي الفلاسفة السابقين على أفلاطون.
من المعروف، أنه لم تكن لدي اليونانيين القدماء كتب مقدسة أو هيئة دينية تضع الدين في صيغ ثابتة يتقيد بها الناس. ومن هنا، كانوا يستشهدون بالأساطير في الشؤن الخاصة بالسلوك في الحياة. مع ذلك، فإن فلاسفة اليونان الذين تصدوا لإقامة نظم فلسفية عقلانية على أشلاء الأسطورة، لم ينجحوا تماماً من سحر البيان الأسطوري، ومنهم على سبيل المثال:
"طاليس" Thales
تساءل "طاليس" عن نشأة الكون وبحث عن إجابة بمصطلحات المادة، فرأي أن الأشياء جميعاً أشكال متنوعة من الماء الذي لا غني عنه للحياة. ومع ذلك فإن هذه البداية العلمية لم تتحرر من الأسطورة. كما إن نظرة "طاليس" إلى الموجودات الأولية جاءت نتيجة حركة الكائنات الحية ونموها التفكير في وجود قوة باطنة هي التي تحركها؛ وأن هذه القوة هي من الآلهة – وهذا معني قوله "كل شيء مملوء بالآلهة".
"أكسانيوفان" Xenophanes
قام بالتهكم على صور الآلهة التي كان يضعها الفنانون والشعراء ويقنعون بها الجمهور، وذهب إلى أن هذه الصور من خلق أصحابها ومحض ادعاءاتهم لا نصيب لها من الصحة، ودلل علي ذلك بأن الزنوج إذا أرادوا تصوير آلهتهم لجاءت علي شاكلتهم وكذا الحيوانات.
أي أنه هاجم بعنف النزعة التشبيهية التي تصور الآلهة على شاكلة البشر. ويقال إنه ارتفع بعقله فوق حكايات قدماء الشعراء، وصرف جهده إلى القول بنظام اسمي من التجربة المحسوسة.
"سقراط" Socrates
أدرك "سقراط" منذ شبابه أن فكرته عن وجود الآلهة مشوشة وأن صورة الآلهة التي جاءت في الأساطير ليس لها وجود في ذهنه. ورغم أن سقراط استمد شعاره "أعرف نفسك بنفسك" من الحكمة المنقوشة على معبد دلڨي. إلا أن دعوي الاتهام تري أنه رجل أفسد الشباب وقال بآلهة جديدة ودين جديد؛ أي أنه أراد الاستغناء عن آلهة المدينة ودين المدينة. وقد تبدو إدانة سقراط وموته من الموجهة السياسية علامة من علامات انتصار المدينة، في ذلك الوقت وانتصار تقاليدها وآلهتها. ولنا أن نتساءل هنا، هل هذه النمطية في التفكير ظلت ثابته بعد سقراط مع أفلاطون وأرسطو أم انها اختلفت واتخذت شكلاً آخر؟
لقد استقي "أفلاطون" Plato تصوره للألوهية من مصدرين هما: مصر القديمة (وخاصة عقائد مفكريها حول التوحيد والخلق)، وسقراط وعقيدته (التي لم تتزعزع يوماً عن الإله الذي استمد منه رسالته الإصلاحية التي لم تكل يوماً ولم تمل حتى أودت بحياته مقتولاً علي يد من حاول إصلاح شأنهم). وقد استند اللاهوت الأفلاطوني بوجه عام على مبادئ أربعة هي:
1- أن الآلهة موجودة، وعلى رأسها الإله الواحد، الذي كثيراً ما عب عنه بصيغة المفرد Theos.
2- أنها تعني بشؤن البشر وتتحكم في الأحوال الفيزيقية لحياتنا وتوجهنا إلى الحياة السعيدة.
3- أنها غير قابلة للفساد، وهي التي تهب بالتالي النفوس البشرية الخلود وعدم قابلية الفساد.
4- أن ثمة خطة إلهية مقدسة تنظم كل شيء في العالم وتتقدم على أساسها الحياة البشرية.
وفي ضوء هذه المبادئ قدم أفلاطون عدة براهين على وجود الإله، هي على النحو التالي:
أ- برهان وجود الإله كعلة فاعلة. ب- البرهان الكوني (الإله كعلة محركة).
جــ - برهان الغائية أو النظام. د- برهان الإجماع.
هـــ - برهان نظرية المثل.
ولكن أفلاطون رغم محبته للنزعة غي العقلانية في النفس الإنسانية فقد اتجه إلى تأليف أساطير من صنعه: أسطورة الكهف، وأسطورة اختبار النفس لمصيرها والحساب بعد الموت؛ وذلك بهدف شرح وتوصيل أفكار المجرد، ولعلمه بما للأسطورة من سلطان علي النفوس ومن مقدرتها على تثبيت الأفكار والمعتقدات. هذا عن أفلاطون، وماذا عن أرسطو؟
أن "أرسطو" Aristotle قد أستكمل طريق أفلاطون في البرهنة علي وجود الإله، وإن اختلفت براهينه بعض الشيء باختلاف فلسفته؛ حيث أضاف أرسطو إلي الأدلة الأفلاطونية دليلين جديدين هما: "الإله كعلة صورية" ودليل "القوة والعقل"، ولتلاحظ حسب الفلسفة الأرسطية أنهما وجهان لعملة واحدة؛ حيث إن بحث أرسطو عن العلل قاده إلي التمييز بين العلل أربعة أهما العلة الصورية التي تمثل جوهر العالم فكل أشياء العالم مركبة من مادة وصورة وبالطبع فالصورة تمثل مال وماهية وجوهر كل شيء، وتسلسل الموجودات في العالم الطبيعي يقودنا إلي التساؤل: ألا توجد صورة بلا مادة؟ فتكون الإجابة أنها صوة الصور، وهي بلا شك صورة خالصة ومفارقة لهذا العالم الطبيعي؛ ومن ثمّ فهي الإله.
كما أشاد "أرسطو" بعظمة التأمل، حيث رأي فيه الفضيلة العليا التي يجب أن يتحلى بها الإنسان، فضيلة تسمو على جميع الفضائل. والفيلسوف يحيا حياة الآلهة، إذ قام مثلهم بتأمل الموضوعات الأزلية، أي الأفلاك في دورانها المنتظم.
وفي الختام، نلاحظ كم التغيرات والتفصيلات التي طرأت على الفكر الديني عند اليونان، وبهذا لم تتوحد الرؤى الدينية بين الفكر الهندي والفكر اليوناني، ولكن هل التفكير الديني عند اليونان ظل ثابت بالنمطية ذاتها خلال العصر الوسيط، أم لحقه التطوير والاختلاف؟ سيكون هذا موضوع مقالنا القادم.