الجمعة 19 ابريل 2024

الفلسفة والدين.. رؤية فلسفية للمعتقدات الدينية القديمة (3 – 3)

مقالات6-12-2022 | 12:38

انتهينا في مقالنا السابق، ببيان عرض موجز عن علاقة الفلسفة بالدين في العصر اليوناني، وكان هو الجزء الثاني من موضوعنا. وها نحن الآن نستكمل حديثنا بالجزء الثالث من موضوعنا ببيان عرض توضيحي لهذه العلاقة في العصر الوسيط بشقيه المسيحي والإسلامي، على أن يكون هذا هو الجزء المتمم والأخير لموضوعنا.

لقد وجد نفر من المسيحيين اقتنعوا بالتغاير بين الفلسفة والدين، فذهبوا إلى أننا قد نقبل بالعقل قضية ما ونعتنق نقيضها بالإيمان. ويوجد الآن أمثال هؤلاء، وسيوجد لهم أمثال بلا ريب. ولكن التاريخ يعرض علينا مسيحيين آخرين، كانت الفلسفة والمسيحية عندهم متصلتين متفاعلتين، فأضافوا وجهة جديدة في تاريخ الفكر، وهو يؤلفون الغالبية العظمي في العصر الوسيط، هؤلاء يتفقون في أن الوحي والعقل من عند الله فمحال أن يتعارضا، وأن العقل يجد في الوحي هاديًا ومعينًا، ولكنهم يفترقون طائفتين في تصور الصلة بين الطرفين، فهي عند طائفة أوثق منها عند الطائفة الأخرى.

بمعني أنه ينظر بعض مؤرخي الفلسفة الأوروبية إلى العصر الوسيط على أنه يمثل المدة الممتدة بين القرن التاسع والرابع عشر أو الخامس عشر، فيما يتعبره آخرون الفترة الممتدة من القرن الأول إلي القرن التاسع، هي التي تمثل دور التأسيس لفلسفة العصر الوسيط. ولنبدأ حديثنا بالشق المسيحي، وسنتخذ القديس "أوغسطين" Augustine (354م – 430م) نموذجًا لهذه الفترة.

لا شك أن حياة أوغسطين كانت تتمحور حول فكرة البحث عن السعادة، وربما أن الفلاسفة في بحثهم عن السعادة ومحاولة استكشافهم لها لم يصلوا إليها كاملة، لأن العقل لا يستطيع بجهده الذاتي الخالص أن يصل لهذه الحقيقة المطلقة، ولذا فهو في حاجة إلى من يساعده، إلى من يهديه ويكشف له حجب الطريق ويؤمن له مخاطره وهذا هو دور الإيمان.

          كما يخبرنا "أوغسطين" في "الاعترافات" أنه لم يشك في وجود الله قط بالرغم مما صادف من اعتراضات، وقد احتلت فكرة الله نقطة المركز من مذهبه، كما كانت محور حياته، فقد كان يري وجود الله واضحاً جد الوضوح لا ينكر إلا بدافع من الأهواء، ومن جانب نفر قليل جدًا، كان يراه واضحًا باستدلال بديهي انعقد عليه إجماع الناس واتفق عليه أفاضل الفلاسفة.

          يري "أوغسطين" إن الإيمان ليس عاطفة غامضة وتصديقًا عاطلا عن الأسباب العقلية، ولكنه قبول عقلي لحقائق إن لم تكن مدركة في ذاتها كالحقائق العلمية، فهي مؤيدة بشهادة شهود وجديين بالتصديق، وهم: الرسل والشهداء، وبعلامات خارقة هي المعجزات. ولأن الإيمان لا يوجد إلا من خلال العقل فإن الإيمان لا ينفر من نقد العقل.

          فالعقل إذًا له مهمه قبل الإيمان، وهي الاشتياق مما ورد في العقيدة. ففي هذه المرحلة فإن العقل سابق على الإيمان وممهد له، أما المهمة الثانية للعقل فتأتي بعد الإيمان، وهي تفهم العقائد الدينية، وهنا يكون الإيمان سابقًا على التعقل إذ يظهر القلب ويجعل العقل أقدر على البحث. وبتعبير آخر نقول إن العقل عند اوغسطين عقل مؤمن، ينطلق من الوحي، أو أن العقل مندمج بالوحي ومختلط فيه.

          فبهذا نجد أن الإيمان يتطلب وجود العقل لكي يوضحه ويفسره ويبين أهميته وقيمته، لذلك كان الإيمان عند أوغسطين يعني قبولا عقليًا لحقائق العقيدة، ولذلك كانت أسبقية العقل، لكنها أسبقية على المستوي الفردي لا على المستوي الجمعي.

          وننتهي من هذا كله إلى أن، أوغسطين جعل موضوع الإيمان والعقل أحد المحاور الرئيسية في حياته، فهو الذي وضع مبدأ "أؤمن كي أعقل" الذي أستمر حتى القديس "أنسلم" في القرن الحادي عشر. هذا عن الفكر الديني في الحقبة المسيحية من ذلك الوقت، وماذا عن الفكر الديني في الحقبة الإسلامية؟

          فالفلسفة منذ سقراط تحاول أن تجمع بين السؤال العقلي العملي حول الظاهرات الطبيعية والسؤال العقلي الخلقي حول الظاهرات الاجتماعية والسياسية. وهي في الحالتين تنتهي إلى السؤال الديني إما تأسيسًا لما بعد الطبيعة أو تأسيسًا لما بعد التاريخ أو تأسيسًا لفن يوحد بين المباعدين.

          ولهذا نجد موضوع العلاقة بين الفلسفة والدين من الموضوعات التي خاض فيها فلاسفة الإسلام. فالدراس للكتب التي تركها لنا هؤلاء الفلاسفة يجدهم قد اهتموا بالبحث في هذا الموضوع، سواء من حيث التوفيق بصورته العامة، بمعني الدفاع عن الاشتغال بالفلسفة وبيان انها لا تتعارض مع الدين، او من حيث المشكلات نفسها، بمعني التقريب بين ما يذهبون إليه متأثرين بهذا الفيلسوف أو ذاك من فلاسفة اليونان وبين ما أخبرنا به الدين.

          فلعل من أهم الركائز التي أرتكز عليها معظم فلاسفة الإسلام، بل إن شئنًا الحقيقة قلنا هي الركيزة الأساسية، هي دعوة القرآن الكريم للتفكير والاعتبار والنظر. فلا أحد يستطيع أن ينكر ما في القرآن من ضرورة الاستدلال القائم على البحث عن العلل على قواعد الفكر الملزمة، ومن التنبيه المستمر على النظر العقلي في الكون والتأمل لما فيه، وعلى التدبر في بناء العوالم ونوقف بعضها على بعض. ومن إشارات كونية ونفسية من شأنها أن توصل بالضرورة العقلية إلى الغاية منه، وهي إنشاء وجهة نظر عن الذات الإلهية وعن الإنسان وعن الكون والحياة، والقرآن يشير في مواضع كثيرة إلى أن الدعوة الدينية "تذكرة"، وهي تنبيه وإيقاظ للعقل لكي ينظر في الكون ويؤمن بموجده على سبيل الاستدلال العقلي من الأثر على المؤثر ومن الإتقان والنظام والتدبير على المنظم المدبر المتقن، وذلك بالتأمل في الكون والإنسان وما يؤدي إليه من معارف.

حاول فلاسفة العرب التوفيق بين الفلسفة والدين، وذلك لاعتقادهم أن الفلسفة والدين يساند كل منهما الآخر، في كل المسائل الجوهرية، وإن بدا بينهما تعارض، فإنه ليس حقيقياً، وإنما نشأ نتيجة لسوء فهم كليهما. نقول إن هذه المشكلة كانت من المشكلات الفلسفة والدينية التي خاض فيها كل فلاسفة العرب تقريباً. فهي إذًا كانت قد بحثت من جانب الكندي – كما سنري بعد قليل – فإنها قد بحثت أيضًا من جانب الفارابي وابن سينا علي صورة أو اخري من الصور العديدة.

          نخلص من هذا، إلى القول بأن أكثر فلاسفة مفكري العرب قد خاضوا في دراسة موضوع العلاقة بين الفلسفة والدين، ولكي تضح أمامنا الصورة بشكل مبسط سنتناول الآن محاولة الكندي Al- Kindi (185 هــ / 796م – 260هــ / 873م). والسؤال الآن، ما هي الأسباب التي دفعت الكندي إلى دراسة هذه المسألة؟ وكيف حال التوفيق بينهما؟

 أولا: الأسباب التي دفعت الكندي للتوفيق بين الفلسفة والدين:

1- إن القرآن الكريم به آيات عديدة تدعو إلى النظر والبحث في جنبات الكون، مثل قوله تعالي: "فاعتبروا يا أولي الأبصار" (سورة الحشر – الآية 2). وقوله تعالي: "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت" (سورة الغاشية – آية 17، 18). إذًا هناك الكثير والعديد من الآيات التي تحث على البحث والنظر في جنبات الكون وهذا ما دفع الكندي وغيره من الفلاسفة إلى التوفيق بين الفلسفة والدين.

2- إن الفلسفة كان ينظر لها في عصره (عصر الكندي) نظرة شك وارتياب، أي أنه كان ينظر لها على انها تجيء بالحق أم لا.

3- إن الكندي قد لحق به الأذى بسبب اشتغاله بالفلسفة، والمفكر عندما يلحق به الأذى أثناء اشتغاله بشيء ما وفي نفس الوقت يكون حريصًا على الاشتغال به وعدم تركه، فلابد منه بحاجه إلى وضع كتب ورسائل تساعده على دراسة هذه المسألة (التوفيق بين الفلسفة والدين).

هذه هي الأسباب التي دفعت الكندي لمحاولة التوفيق بين الحكمة (الفلسفة) والشريعة (الدين)، ولو رجعنا إلى المؤلفات التي تركها لنا الكندي نجد أنه اهتم بهذه المسألة اهتمامًا عميقًا، ونستطيع أن نعتمد على رسالتين له بصفه أساسية، الاولي: رسالته إلى المستعصم بالله في الفلسفة الأولي، اما الثانية: رسالته في كمية كتب أرسطو طاليس وما يحتاج إليه في تحصيله للفلسفة.

ثانياً: جوانب محاولة التوفيق بين الفلسفة والدين عند الكندي:

ففي الصفحات الأولي من رسالته إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولي، نجده في المقدمة يبعد الاتهام عن الفلسفة والمشتغلين بها، فتلك الرسالة تمثل موقفه الدفاعي عن الفلسفة، كما حاول الكندي أيضًا التوفيق بين الفلسفة والدين على النحو التالي:

1- تعد صناعة الفلسفة من أعلي الصناعات منزلة وأعلها مرتبه ويرجع السبب في ذلك إلى أن غرض الفيلسوف في عمله هو إصابة الحق. ومعني ذلك أن الكندي يدافع عن الاشتغال بالفلسفة حيث لا يطعن فيها الطاعنون.

2- إذا كان غرض الفيلسوف هو إصابة الحق، فإننا لا نجد مطلوبتنا من الحق من غير علة، وعلة وجود كل شيء وثباته الحق. ويحاول الكندي أن يوضح ذلك بقوله، ان كل ما له آنية له حقيقة، والحق اضطرارًا موجودًا إذًا لأنيات موجودة.

3- من الأشياء الضرورية والواجبة الا نزم الذين كانوا أسباب منافعنا البسيطة، لأنهم حققوا لنا مطالب فكرية وخفية، هذه المطالب لن نستطيع الوصول لها إلا من خلال وجدهم هم ومن بحثهم عن الحقيقة.

4- إذا قيل لنا أن الفلسفة اتت لنا من بلاد بعيده وغريبه عنا، أي من بلاد اليونان فإننا يجب ألا نستحي من ذلك القول.

5- ولكن هل من الواجب على المهاجمين للفلسفة دراستها، يقول الكندي "على الجميع طلب الفلسفة ودراستها حتى وإن كان المهاجمين والمحاربين لها، حتى نتقي سوء التأويل الذي يقوم به أهل الغربة عن الحق. إن هؤلاء الذي يتجنبون البحث عن حقائق الفلسفة، يجب عليهم أن يبحثوا فيها".

وواضح أن الكندي في هذا الجزء من رسالته يهاجم مسلك رجال الدين وينقدهم، بعد دفاع الكندي عن الفلسفة في رسالته إلى المستعصم بالله في الفلسفة الأولي وتبريره الاشتغال بها، يبين لنا أن المسائل التي تبحثها الفلسفة قد أتت بها الرسل.

 بمعني انه الطريق الذي يسير فيه الفلاسفة هو نفسه الطريق الذي يسلكه الأنبياء، أم أن هناك فرقًا بين العلم الإلهي من جهة والفلسفة من جهة أخري. في الواقع نجد الكندي يطلعنا على فرق جوهري بينهما، وهو أن علوم الرسل تكون بلا طلب ولا تكلف ولا بحيلة بشرية ولا زمان، بل إنها علوم تكون بإرادة الله تعالي عن طريق تطهيره لأنفسهم وإنارتها للحق، كما تعد هذه العلوم خاصة بالرسل دون غيرهم. اما الفلاسفة فإن علومهم تجيء لهم عن طريق الاكتساب والتجربة.

ننتهي من هذا إلى القول بأن الكندي قد حاول جهده التوفيق بين الفلسفة والدين. ولكن هذا التوفيق لم يمنعه من بيان الفروق بين علوم الأنبياء وعلوم الفلاسفة. إن هناك فروقًا جوهرية بينهما ينبهنا إليها الكندي. وإذا كان في هذه الفروق ما يشعرنا باختلاف طريق الدين عن طريق الفلسفة، فإنها مع ذلك لا تؤدي إلى استبعاد محاولة التوفيق بين الفلسفة والدين، بحيث يعيش كل من المشتغلين بهما في وئام (وفاق) واتفاق مع بعضهم البعض.

وعليه ستكون لدينا الآن رؤية واضحة وموجزة عن العلاقة بين الفلسفة والدين في العصور القديمة ابتداءً من الفكر البوذي مرورًا بالفكر اليوناني ووصلاً بالعصر الوسيط، وكان هذا هدفنا المنشود خلال الثلاث مقالات، بغرض بسط مساحة من التفكير لا بأس بها تنقلنا إلى الفهم السليم والدقيق لهذه العلاقة.