تأتى القمة (العربية- الصينية) بالرياض فى ظروف دولية شديدة التعقيد.. وسط أجواء ضبابية تخيم عليها سحب تداعيات أزمات قاسية وصراعات وحروب ومحاولات للاستقطاب.. لكن العرب اختاروا الطريق الأمثل وهو التوازن فى علاقاتهم الدولية ومع الجميع بعيداً عن الاستقطاب أو سياسة المعسكرات.. يبحثون عن ترسيخ السلام والاستقرار والبناء والتنمية.. لذلك فالقمة «العربية- الصينية» الأولى وهى تاريخية تركز أهدافها على الاقتصاد والاستثمار وتعزيز التبادل التجاري والتعاون في كل المجالات.. خاصة وأن النموذج الصيني يأتي بعيداً تماماً عن محاولات فرض الهيمنة والإملاءات والثقافات وهو ما يرفضه الشموخ والكبرياء العربي الذى بدا واضحاً في التجربة المصرية في العلاقات الدولية التي ترسخ الاحترام المتبادل.. وعدم التدخل في الشئون الداخلية.
حالة الاتساق والاتفاق في المواقف العربية على صعيد العلاقات العربية- العربية أو العلاقات الثنائية أو العلاقات الدولية مع القوى الكبرى في هذا العالم.. نقطة مضيئة ومبشرة.. تدفع نحو تعزيز المكانة والثقل العربي على الصعيد الدولي.. في ظل عالم يتجه نحو تشكيل نظام عالمي جديد لم يعرف فيه العرب ولم يستجيبوا لأى محاولات للاستقطاب الدولي.. واختاروا طريقاً مهماً في اتجاه توازن العلاقات الدولية وتحقيق مصالح العرب وتعظيم مكانتهم ومواردهم بدلاً من أن يكونوا أسرى للعلاقات مع معسكر واحد.
في اعتقادي إن العلاقات المصرية على الصعيد الدولي والتي يقودها الرئيس عبدالفتاح السيسي ترسخ وبقوة هذا المفهوم فالقاهرة لديها علاقات قوية وشراكات استراتيجية مع القوى الكبرى الفاعلة فى العالم ولم تتجه أبداً نحو الاستقطاب ولكن لديها علاقات صداقة مع الولايات المتحدة والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية والهند وتستند إلى علاقة شراكة استراتيجية في كافة المجالات.. فالعلاقات المصرية مع أي دولة ليست بديلاً لعلاقاتها مع دولة أخري.. وهو نموذج محترم ومحايد في العلاقات الدولية يمنح الدولة المصرية مصداقية واحتراماً كبيراً.. ويجعلها وسيطاً نزيهاً فى إيجاد الحلول السلمية للصراعات والأزمات الدولية والإقليمية.
الدولة المصرية في عهد الرئيس السيسي أرست مجموعة من المبادئ المهمة والثوابت الشريفة في علاقاتها الدولية.. يأتي على رأسها الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول وتبادل المصالح والمنافع والخبرات لتعظيم الموارد وتحقيق مصالح الشعوب وفق قاعدة من الاحترام للسيادة وشئون الدول الداخلية.. كذلك تعظيم ودعم الدولة الوطنية ومؤسساتها أو استعادة الدولة الوطنية في الدول التي تعرضت لأزمات السقوط خلال العقد الأخير.. وإعادة بناء مؤسساتها الوطنية خاصة العسكرية والأمنية وعدم وجود الميليشيات والجماعات الإرهابية في أي معادلة سياسية أو تفاوضية.
على الصعيد العربي.. أولت مصر- السيسي اهتماماً غير مسبوق بالعلاقات العربية سواء على الصعيد والمستوى الجماعي أو العلاقات الثنائية وتستحوذ العلاقات واللقاءات والاهتمامات المصرية على الصعيد العربي حيزاً ومساحة كبيرة وتولى اهتماماً كبيراً بتعزيز العمل العربي المشترك والتلاحم والتكاتف العربي وتنمية الموارد والاستفادة من الثروات العربية.. وترسيخ الأمن العربي بمفهومه الشامل ليس فقط في مواجهة التهديدات الإقليمية والدولية ولكن أيضاً في مواجهة التحديات التي خلفتها أزمات عالمية وأخرها الحرب الروسية- الأوكرانية وأثارها وتداعياتها على أصعدة مختلفة.
لكن أهم ما يميز العلاقات العربية في هذا الوقت أنها تمضى وفق رؤية جماعية ورؤية عربية تم الاتفاق عليها سواء على الصعيد الثنائي أو على الصعيد (العربي- الدولي) خاصة وأن هناك إدراكاً عربياً غير مسبوق لطبيعة التحديات الدولية وأهمية أن يكون للعرب مكان مرموق وذو خصوصية في النظام العالمي الجديد.
الحقيقة أن زيارة الرئيس الصيني للمملكة العربية السعودية بدعوة من الملك سلمان بن عبدالعزيز خادم الحرمين الشريفين وعاهل المملكة وعقد ثلاث قمم خلال هذه الزيارة سواء قمة صينية- سعودية أو قمة (خليجية- سعودية) أو قمة (عربية- صينية) تأتى في أجواء عالمية ملبدة بالغيوم والسحب الكثيفة وسط تحديات دولية وإقليمية غير مسبوقة في ظل اقتراب الحرب الروسية- الأوكرانية من إكمال عامها الأول وما ألقت به من ظلال وآثار وتداعيات على جميع دول العالم خاصة على الجانب والصعيد الاقتصادي وتهديد الأمن الغذائي والطاقة وأزماتها في ظل ارتفاع أسعارها سواء الغاز أو النفط أو حالة الاختلال التي حدثت في سلاسل التوريد والإمداد وألقت بأعباء كثيرة وثقيلة على اقتصادات الدول والظروف المعيشية للشعوب وهو ما يستوجب وجود رؤية وتنسيق وحوار سياسي وتفاهمات عربية مع القوى الكبرى الفاعلة فى العالم.. خاصة أن السعودية استضافت قبل شهور قمة (عربية- أمريكية) بحضور الرئيس الأمريكي جو بايدن وهو ما يشير إلى حالة التوازن التي تتسم بها العلاقات العربية مع الدول الكبرى في ظل القمة العربية- الصينية الأولى التي ستعقد اليوم بالرياض.. وجل أهدافها اقتصادية وتنموية ودفع وتعزيز التبادل التجاري والاستثماري بين العرب وبكين بالإضافة إلى تنسيق المواقف وتبادل الرؤى ووجهات النظر حول مختلف القضايا الإقليمية والدولية للحفاظ على الأمن والاستقرار فى الشرق الأوسط والعالم.
لا شك أيضاً ان الصين تجمعها بالعرب علاقات تاريخية وهى دولة لها تجربة ملهمة على الصعيد الاقتصادي والصناعي والتنموي وتمتلك قدرات كبيرة على صعيد التكنولوجيا والخبرات المختلفة.. فهي الدولة التي تمثل الاقتصاد الثاني في العالم ومرشحة وفق التوقعات الدولية أن تكون الاقتصاد الأول بحلول عام 2030 وهنا تبرز أهمية تطوير العلاقات العربية- الصينية خاصة لتعزيز الانفتاح والتبادل التجارى ومضاعفة معدلات الاستثمارات وقيام الكثير من الشراكات وظهور الكيانات المشتركة التي تحدث متغيرات على صعيد التجارة والاستثمار.
منهجية الصين فى علاقاتها الدولية تركز فى الأساس على الأبعاد الاقتصادية والتنمية والاستثمار وزيادة التبادل التجارى والتعاون الاقتصادى وفتح آفاق جديدة للصين فى التعاون مع الدولة المختلفة.. وتتوارى فى هذه العلاقات الجوانب السياسية.. فلا تميل بكين إلى التدخل فى شئون الدول الأخرى ولا تفرض نسقاً سياسياً معيناً ولا تتجه صوب الإملاءات أو الشروط السياسية على الإطلاق.. فجل ما تسعى إليه هو تعزيز التعاون الاقتصادى والاستثمارى والتجارى وفتح آفاق جديدة للاستثمارات الصينية بما يحقق أهداف الجميع سواء فى إحداث أبعاد تنموية واقتصادية للدول المتعاونة مع بكين أو وجود استثمارات صينية مع هذه الدول.. فمن المنتظر أن تشهد القمة السعودية- الصينية على حسب ما نشرته وسائل الإعلام فى المملكة توقيع أكثر من 20 اتفاقية أولية بقيمة 110 مليارات ريال وتوقيع وثيقة الشراكة الإستراتيجية بين الرياض وبكين.
العلاقات المصرية- الصينية هى علاقات تاريخية ولدى الدولتين الكثير من المواقف المضيئة المتبادلة وتولى بكين اهتماماً كبيراً بالقاهرة وتضعها فى مكانة كبيرة من الاحترام والتقدير ومحورية الدور فى الشرق الأوسط.. بالإضافة إلى وجود الشراكة الإستراتيجية بين مصر والصين والتي شهدت تطوراً كبيراً فى عهد الرئيس السيسى حيث شهدت العلاقات بين البلدين خلال الـ8 سنوات الماضية آفاقاً غير مسبوقة ولعل زيارات ولقاءات الرئيسين السيسى وشى جين بينج المتبادلة سواء فى القاهرة أو بكين وما يجمعهما من علاقة صداقة وتقدير واحترام متبادل وحرص الصين على دعوة الرئيس السيسى فى كافة المحافل والمناسبات التي تستضيفها بكين بالإضافة إلى اتساق المواقف والرؤى حول العديد من القضايا والملفات الإقليمية والدولية ووجود إرادة سياسية مشتركة بين القيادتين لتطوير التعاون فى جميع المجالات خاصة الاقتصادية والاستثمارية والتجارية استناداً إلى أهمية ومحورية البلدين وعلاقاتهما التاريخية.
الرئيس السيسى بمجرد وصوله بالأمس إلى العاصمة السعودية الرياض للمشاركة فى القمة (العربية- الصينية) والتي تأتى فى إطار حرص مصر على تدعيم وتطوير أواصر العلاقات التاريخية المتميزة بين الدول العربية والصين.. التقى الرئيس الصينى شى جين بينج فى قمة مصرية- صينية وكان اللقاء مجسداً لعمق وإستراتيجية وخصوصية العلاقات بين القيادتين والبلدين وأكدا على أهمية تطوير الارتقاء بالعلاقات الثنائية خلال الفترة القادمة فى ضوء الروابط التاريخية الممتدة التي تستند على الصداقة والاحترام والتقدير.
الرئيس السيسى أكد على مجموعة من النقاط المهمة كالتالي:
أولاً: حرص مصر على تطوير التعاون المشترك على مختلف الأصعدة مع الصين سواء فى الإطار العربى الجماعى أو فى الإطار الثنائى من خلال الشراكة الإستراتيجية الشاملة التي تجمع بين القاهرة وبكين.
لفتت نظرى عبارة «فى الإطار العربى الجماعي» وهو توصيف عبقرى للرئيس السيسى عن الحالة العربية التي تبدو متسقة ومتوافقة.. فالعرب يتحدثون بلسان واحد مما يجسد حالة التلاحم والوحدة العربية وأيضاً الإرادة العربية المشتركة.
ثانياً: الرئيس الصينى قدم التهنئة للرئيس السيسى على التنظيم المصرى رفيع المستوى للقمة العالمية للمناخ «كوب- 27» والنجاح الذى حققته.. وهو ما يجسد حالة النجاح والتفوق المصرى خلال قمة المناخ بشرم الشيخ.
ثالثاً: هناك إرادة ورغبة صينية واعتزاز بالعلاقات والشراكة مع مصر فى جميع المجالات والتركيز على توسيع أطر التعاون المختلفة ودعم مصر فى مسيرة التنمية بقيادة الرئيس السيسى مشيراً إلى أن مصر بها فرص واعدة للاستثمارات للشركات الصينية وبالتالى فهناك آفاق واسعة للارتقاء بالتبادل التجارى والتعاون الاقتصادى بين البلدين الصديقين وهو ما يعكس حجم الاهتمام الدولى الكبير بما تشهده.
رابعاً: الرئيس السيسى أشار إلى تكامل المبادرة الصينية «الحزام والطريق» مع جهود مصر التنموية خاصة المتعلقة بتنمية محور قناة السويس وتطوير البنية الأساسية للدولة وفى مجالات الطرق والموانئ البحرية والطاقة وتطلع الرئيس السيسى إلى تعزيز التدفقات السياحية الصينية إلى مصر وتشجيع الشركات الصينية على تعظيم استثماراتها فى مصر خاصة فى مجال توطين التصنيع فى إطار ما تحظى به الشركات الصينية من دعم من قبل الحكومة المصرية.
خامساً: من المهم تبادل الرؤى وتنسيق المواقف مع دولة كبرى مثل الصين حول تطورات الأوضاع في الشرق الأوسط في ظل التحديات التي تواجه المنطقة.. خاصة أن الصين تدرك محورية الدور المصري والمكانة الإقليمية والدولية لها وهو ما أكد عليه الرئيس شي جين بينج.. حيث ثمن الدور المصري في صون السلم والأمن والاستقرار في المنطقة خاصة في مكافحة الإرهاب والفكر المتطرف والجهود المصرية الفاعلة في تحقيق التسوية السياسية لمختلف الأزمات في محيطها الإقليمي وهو الدور الذى تعول عليه الصين في ترسيخ الشراكة الصينية- العربية.
الحقيقة أن القمة «العربية- الصينية» أو القمة «المصرية- الصينية» تحملان رسائل مهمة أبرزها نجاح التوجه المصري والعربي نحو الانفتاح في علاقات دولية متوازنة بعيداً عن الاستقطاب والبحث فقط عن مصالح العرب ودولهم.. والتركيز على التعاون الاقتصادي والتنموي والاستثماري والتجاري والاستفادة من إمكانات التقدم في الدول الكبرى وهو ما حرصت عليه مصر على مدار أكثر من 8 سنوات ويمثل الآن توجهاً ورؤية عربية واضحة المعالم.. تستهدف البناء والتنمية.
القمة «العربية- الصينية» هي الأولى تاريخياً.. لكنها تدشن فى الأساس رؤية عربية مختلفة وسياسات متفردة تقوم على الندية والاستقلال وحرية الحركة في إبرام علاقات تعتمد على الاحترام المتبادل والندية والتعاون وتبادل المصالح والشراكات وتعظيم تبادل المنافع والتجارب والاستثمارات وهناك إطار فكرى للقمة «العربية- الصينية» يشير إلى مكانة وإرادة واستقلال عربي في التوجهات والسياسات والعلاقات يجسد رفضاً عربياً قوياً لكل مظاهر التبعية والهيمنة.. ومحاولات فرض الإملاءات والثقافات والسلوكيات وأن العرب يريدون أخذ ما يناسب ويتناسب مع استقلالهم وسيادتهم وأفكارهم وقيمهم وتعظيم الاستفادة من التجارب الاقتصادية والتنموية الرائدة والتي تستند إلى التقدم والتطور التكنولوجي للتنمية والارتقاء بثرواتهم ومواردهم.
الصين دولة شديدة الخصوصية في علاقاتها الدولية.. لا تريد من أحد أن يلعب دور التابع.. لا تميل إلى فرض الإملاءات والأنماط الفكرية والثقافية والسلوكية بل تحترم خصوصية كل دولة واستقلالها وإرادة الشعوب.. ولا تتدخل في الشئون الداخلية للدول.. وجل ما تسعى إليه هو الأبعاد الاقتصادية والتنموية والاستثمارية ولا تتحدث إلا بهذه اللغة.. ومفرداتها ثابتة في هذا الإطار.. فلا تسعى لفرض قالب اقتصادي أو ثقافي أو ديني أو سلوكي.. كل ذلك يمنحها ترحيباً عربياً في ظل تنامى القدرات العربية وإرادة العرب وصلابتهم في ترسيخ الاحترام لخصوصيتهم ومكانتهم وطبيعة منظومة القيم التي تمثل جوهر سياساتهم وتوجهاتهم.. لذلك فالصين نموذج استفاد من أخطاء وتجارب الآخرين من القوى الدولية التي سعت إلى فرض أيديولوجياتها وإملاءاتها وثقافاتها والتي اصطدمت بصخرة الكبرياء والشموخ العربي.. فهناك ندية عربية في التعامل مع الجميع.. والبحث فقط عما يحقق المصالح العربية أو تبادل المصالح دون أي شروط أخرى تنتهك السيادة والاستقلال وترفض التبعية تماماً.
الحقيقة أن الجانب الصيني أكثر وضوحاً ومواكبة للدول التي تحترم سيادتها وقرارها وثقافاتها.. فبكين لا تتدخل ولا تهتم بمساومة أو ابتزاز الدول أو فرض أنماط ثقافية أو سلوكية أو اتخاذ قرارات بعينها موالية.. واهتمامها يقتصر على الارتقاء بالعلاقات والتعاون الاقتصادي والتنموي والاستثماري والتجاري.
الحقيقة ان (مصر- السيسي) حاضرة وبقوة في كافة المحافل والمناسبات الدولية وتجربتها على مدار الـ8 سنوات ملهمة بشكل شامل سواء على الصعيد الاقتصادي أو السياسي.. أو على صعيد العلاقات الدولية المتوازنة والمتزنة التي تدخل في علاقات وشراكات مع كافة الدول بما يحقق مصالحها وأهدافها ويخدم عملية البناء والتقدم ويرسخ ثقافة السلام والاستقرار الإقليمي والدولي.