يقول «هيراقليطس» الفيلسوف اليوناني القديم: «إنك لا تستطيع أن تنزل النهر مرتين؛ لأن مياهًا جديدة تغمرك باستمرار».
هذا معناه أنك إذا ألقيت بقدميك في النهر، ثم سحبتهما منه، وعدت وأدليت بهما فيه مرة أخرى فإنك تكون في هذه المرة الثانية قد لامست بقدميك مياهًا جديدة، لأن المياه التي ألقيت قدميك فيها في المرة الأولى قد مرقت وجرت بعيدًا، وبالتالي فأنت في المرة الثانية نزلت نهرًا جديدًا. من هنا جاءت مقولة «هيراقليطس»: «إنك لا تستطيع أن تنزل النهر مرتين؛ لأن مياهًا جديدة تغمرك باستمرار».
آمن «هيراقليطس» بالصيرورة والتغير، ورأى أن الوجود في حالة تغير دائم.
إنني من جانبي أؤمن أن الثبات موات. وعلينا أن نميز بين معنيين للثبات، المعنى الأول مذموم، ونقصد بـه «التحجر»، «وعدم المرونة»، وهناك نوع ثاني محمود، ونقصد به التمسك بالحق والصمود في مواجهة الباطل، فالثبات في ميدان القتال دفاعًا عن الوطن شجاعة وليس مواتًا، والثبات على الحق هو نبل وأصالة وليس مواتًا.
إنني ممن يؤمنون بأن التغيير ضرورة حياة، حين يكون نحو الأفضل والأرقى. إنني على استعداد لتغيير آرائي وأفكاري ومعتقداتي كلها، إذا تبين لي بالأدلة والبراهين أنها باطلة، هذا هو الشيء الثابت في حياتي.
لقد مررت بتجارب كثيرة وعميقة دفعتني إلى تغيير آرائي وأفكاري ومواقفي، وصار «الشك» هو المنهج الذي من خلاله أنظر للأشياء والأشخاص والمواقف، أنظر إليها كأنني أراها لأول مرة، وصرت لا أقبل شيئًا على أنه صحيح إلا إذا ثبت لي أنه كذلك.
أتذكر إنني حين كنت صبيًا كان رأسي مزدحمًا بآراء وأفكار ومعتقدات غُرِسَت فيه من قِبَل محيطي العائلي، وكنت متعصبًا شديد التعصب لتلك الآراء والأفكار والمعتقدات. ولكن حدث حين كنت تلميذًا بالمدرسة «الثانوية» - كان عمري حينئذ حوالي 15 سنة – أن التحقت بـ «جماعة المكتبة» وهى مجموعة من التلاميذ تساعد أمين المكتبة في الاعتناء بمكتبة المدرسة، وتنظيم ما تحتويه من كتب. وكانت هذه هي المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها هذا الكم الهائل من الكتب.
بدأت أنظر إلى الكتب المصفوفة على الأرفف بدهشة وانبهار، امتدت يدي إلى كتاب، وكان بالمصادفة للمفكر المصري «سلامة موسى»، وعنوانه: «هؤلاء علموني». استأذنت أمين المكتبة في استعارته كي أقرأه بالبيت، وحين شرعت في قراءته، وتوغلت بين صفحاته، أصابني الذهول من وضوح فكر المؤلف وجسارته في عرض آرائه، التي وجدتها «تزلزل»، ولا أقول «تخلخل» أفكاري ومعتقداتي التي كنت متشبثًا بها تشبثي بالحياة، والتي كنت على يقين بأنها صحيحة صحة مطلقة.
إن قراءتي لهذا الكتاب جعلتني أدرك إنه بالفكر يحيا الإنسان، فمؤلف الكتاب كان قد فارق الحياة منذ سنوات، ومع ذلك شعرت من خلال عرضه لأفكاره بأنه حي ويفيض حيويةً، فأدركت أن الكتب تخلد أصحابها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أكسبتني قراءة بقية مؤلفات «سلامة موسى» القدرة على التفكير الحر الجسور، ثم تواصلت قراءتي في اتجاه الفكر المستنير.
تكشف هذه التجربة إنه بـ «الفكر» تتبدل حياة المرء نحو الأفضل والأرقى، أو نحو الأسوأ والأدنى، يتوقف هذا أو ذاك على طبيعة الفكر الذي نتلقاه ونتعامل معه. فلو أنني قرأت كتاب «في ظلال القرآن» لسيد قطب بدلاً من كتاب «هؤلاء علموني» لسلامة موسى؛ لكنت اليوم – على الأرجح – عضوًا أو زعيمًا لجماعة متطرفة دينيًا.
ومن هنا تأتي أهمية الفكر التنويري، وضرورة أن ينتبه المسؤولون عن التعليم والإعلام إلى خطورة الأفكار المعتمة وخطر الفكر المضلل على عقول أبنائنا تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات، وعلى النشء بصفة عامة.