«صحافة ساكسونيا» والبحث عن جنازة
مقاطعة ساكسونيا الألمانية كانت محكومة من جانب طبقة النبلاء والأغنياء، وكانت العقوبة التي يقرها قانون ساكسونيا تطبق بطريقتين مختلفتين وفقا للطبقة التي ينتمي لها المتهم، بالنسبة للفقراء والطبقات الدنيا يتم تطبيق العقوبة عليها بمنتهي الحسم، أما طبقة النبلاء فالعقوبة تطبق على «الظل»، وتحولت قصة تطبيق العقوبات بذلك الشكل إلى ايقونة للسخرية من تطبيق عقوبات قانون ساكسونيا على مدار التاريخ.
وعلي غرار قانون ساكسونيا، وفي القرن الواحد والعشرين، عقب التطور الكبير في الاتصالات، تخرج علينا بعض المنصات والمواقع الاخبارية، بحالة هي اشبه بقانون ساكسونيا، تحترف نقل جنازات المشاهير والبحث عن تعليقات من الفنانين عليها، لا ترعي حرمة الموت، ولا آلام المكلوم، شيء واحد فقط تبحث عنه «الترند» تلك هي «صحافة ساكسونيا»، وايقونة السخرية الجديدة من الصحافة الصفراء.
في «صحافة ساكسونيا» يمكنك صنع الشخصية «بطل الحدث»، والكتابة عنها وبناء حالة من التعاطف معها والدفاع عنها أمام من يحاول كشف قصته الحقيقية من رواد السوشيال ميديا، ثم تتحول أنت نفسك إلى الهجوم عليها من أجل بقاء تلك الشخصية في دائرة «الترند» يثير الجدل في دوائر لا تعني الجمهور، لكنها تظل تثير الجدل على مدار الوقت، وبطل لقصص الاخبار التافهة، والتعليقات الساخرة.
وعندما يتعرض بعض من كان لديه فهم خاطئ تماما لدور الصحافة في المجتمع، ولا يعرف منها سوي توجيه كاميرا الهاتف الذكي صوب أحدهم في جنازة وينتظر منه تعليق فيصيبه نظرة إدراء، تضعه في مكانه الطبيعي كنخاس يتاجر بآلام وأحزان الآخرين من أجل عدد المشاهدات، يرفع شعار حرية الصحافة، ودورها وعملها، دون إدراك منه أنه مجرد تاجر نخاس يتاجر بآلام البشر.
توقفت خلال الاسبوع الماضي أمام بعض ممن يدعون انتمائهم للمهنة، وهم ينتقدون من تعود الظهور بشكل يومي على السوشيال ميديا بموضوعات تثير الجدل التافه، ويطلب أحدهم منه عدم الظهور من جديد وتناسي أنه هو من استدعاه للظهور على منصته التي تطل علينا من «باب صحافة ساكسونيا».
للصحافة جلال وهيبة عندما تلعب دورها الحقيقي في التأثير على الجمهور، وتصنع الرأي العام تجاه القضايا الهامة التي تمس المجتمع، وتدعم الثقافة والقوة الناعمة للمجتمع، هناك فارق كبير بين صحفي وناقد فني يجلس ليحاور قامة فنية لديه القدرة على مناقشة التفاصيل الفنية لأعمالها، وآخر يبحث عن تفاصيل حياتها الشخصية، من أجل «الترند».
في «صحافة ساكسونيا» تتراجع كافة قيم الصحافة ومعايرها، وقبولك للتعاون معها يعني قبولك لكل ما يترتب عليها من البحث في حياتك الشخصية، وتلفيق المواد الاخبارية من أجل «الترند».
للصحافة معايير وسمات خاصة يجب أن تتوفر في من يحمل القلم لينقل خبر، و يحرر تقريرا و يكتب تحقيقا، عليه أن يتحلى بالثقافة و القدرة علي جمع المعلومات و تحليها و أن يدرك من الجمهور الذي ينتظر المعلومة منه و حجم الفائدة التي تعود علي الجمهور من طرح تلك القضية، عليه أن يتحلى باحترام القارئ و عقله، حتي يجد الطريق له، و لا ينسي أن فضاء الانترنيت صنع ذاكرة للعالم لا يمكن حذفها من الأرشيف.
إن آفة «صحافة ساكسونيا» لا تضر محيطها فقط، بل تصنع تأثيرا سلبيا على مختلف وسائل الإعلام المصرية، خاصة عندما يلحظ الجمهور ما تبثه تلك المنصات من مواد لا تحترم عقل المتلقي ولا ترعي المهنية في أفكارها.. مجرد «بضاعة أتلفها الهوى».