الجمعة 27 سبتمبر 2024

درويشٌ أنا في محرابك

مقالات22-12-2022 | 10:26

درويشٌ أنا في محرابك، عشقي لكي له أبجدية غير تلك التي نرسمها ونفرأها، فالرمز فيها مرادف ومعنى لا يعرفه غيرك، للعشق مذاهب وألوان، فهو درجة من درجات الوصل، لا يدركها غير الواصلين العاشقين، يقول مولانا جلال الدين الرومي، «العشق تلك الشعلة التي عندما اشتعلت أحرقت كل شيء ما عدا المعشوق». 

العشق نور يعيد إليك الحياة في أوقات الظلام، وناره شوقا للوصل والاقتراب، والصمت فيه كلمات والكلمة عشق يدركه القلب، وينبض لها بألحان السماء. 

تعانقت الأرواح في ذلك الزمن السرمدي، كلاهما يشعر بذلك اللقاء البعيد، فتفنى تلك النظرات المتبادلة محلقة في عنان السماء، كلاهما يسمع صوت الآخر مرددا كلمات تلك القصيدة التي يجمعهما حبها، «زدني بفرط الحب فيك تحيرا»، وتطوف روحهما معا، وتتشابك الأنامل وتتهامس أصوات خافتة لا يسمعها سوى كليهما. 

جلسا معا على حافة ذلك الشاطئ الذي يحمل ذكريات منفردة لكليهما، كانت حلما بلقاء المعشوق، الذي كانت تتجلى ملامحه الهلامية في خيال الآخر، دار بينهما حديث صامت عن تلك الصدفة التي جمعتهما وذلك الشعور العجيب بمعرفتهما السابقة في ذلك الزمن البعيد، والمئات من علامات الاستفهام التي تبحث عن إجابة، كان يدرك بقلبه تلك الأسئلة التي تسكن صدرها، هل يمكن أن تذوب عشقا بتلك السرعة؟ و تكشف عن مكنونك؟ و بالرغم من صوتها الصامت إلا أن أسئلتها كانت تحاصره وهو يحدق في مقلتيها محاولا الإجابة عنها، لا يوجد سبب منطقي للحب، يمكن أن يخضع لحسابات المنطق، والعقل، فالرحمن غرس الحب في الفؤاد كي نبقى على تلك الأرض إلى أن تنفذ مشيئته، كانت تظنه آتيا اليها من ذلك العالم الصوفي، درويشا يقبع في محرابه، فالعقل لا يدرك سوى المنطق وهو متمرد عليه. 

كانت تتوه للحظات وهي جالسة إليه في ذاتها باحثة عن حلمها القديم في أن يعشقها درويشا ناسكا في محرابها، تشعر بعشقه المجنون دون أن يلفظ بكلمة حب، بينما كل تصرف يقول إنها حبيبته، يمكنه أن يصنع لها عالما خرافيا، يظل مسكونا بها قابلا بها بطفولتها البريئة وجنون أنثى مسكونة بدرويش عاشق.

تخلصت من صمتها وحديث العيون بعد أن عادت من ذاتها مخمورة بكأس من غرام، محدثتا الدرويش.. لم تعلم عني الكثير، كيف أصدق درويشا هائما؟! قال لها استفتي فؤادك، فالقلوب لا تكذب، والعشق وصل وفناء في ذات المحبوب، انتهى اللقاء بينهما وكأنه كان دربا من خيال، أو مسا من الدرويش الهائم، عاد من جديد إلى خُلوته محاولا الجلوس إلى نفسه منفردا بذاته، بينما كانت هي ذاته المسكون بها منذ ذلك الزمن البعيد. 

بينما جلست هي في غرفتها خلف زجاج النافذة، تمسك بين أناملها الفرشاة والألوان، وتبدأ في رسم ملامح تلك اللوحة الجديدة، لتجد نفسها ترسم ملامح هلامية للدرويش، كانت تتساءل لماذا تسكنني الآن وأين كنت منذ سنوات؟ كان هناك حوار يدور بين العقل والقلب جعلها تطوف حول ذاتها في دوائر مثل الدرويش العاشق، وفي صباح اليوم التالي حاولت أن تبرأ من ذلك الحب المجنون، أخفت تلك اللوحة التي رسمتها لملامح الدرويش، لم تعد تذهب إلى الشاطئ، بينما كان الدرويش يطوف كل ليلة حول طيفها مسكونا بعشقها الذي لم يغادر خلوته، حاولت أن تبدأ في رسم لوحة جديدة لتشارك بها في بينالي باريس، لم تستطع سوى العودة إلى لوحة الدرويش الهائم، دار حديث خافت في عقلها لقد برأت من ذلك الدرويش الهائم.. سوف أستعيد نفسي وأعود من جديد لخطوطي وألواني، قبضت بأناملها على الفرشاة وبدأت في رسم لوحتها الجديدة، مشربية يقبع في خلفيتها حلقة من الرجال يتوسطهم درويش ذو ملامح هادئة. 

حاولت أن تخلد إلى النوم لكنها لم تستطع ظلت بين اليقظة والغفوة حتى شروق الشمس، ذهبت تبحث عنه في تلك التكية العتيقة التي اعتاد البقاء فيها، لم تكن تعلم ماذا تريد أن تقول له، كانت تحمل لوحتها وكأنها تبحث عن بطلها، سألت شيخا صوفيا عنه لكنه لم يعرف صاحب تلك الملامح الهادئة، وقال لها ابحثي عنه في ذاتك.. أجابته وكيف أبحث عنه في ذاتي وقد حاولت أن أبرأ من حبه .. صمت برهة ثم أجابها أنت مسكونة بالعشق وهو مسكون بك تركها مغادرا ساحة التكية وهو يردد جميعا مسكون بالعشق .. ناسك في محرابه إلى أن تنفذ مشيئته.