د. مصطفى نور الدين - كاتب مصري
حدثت تفجيرات كنيسة القديسين ليلة أعياد الميلاد نهاية ٢٠١٠ قبل ثورة يناير بأيام، وتكررت تفجيرات كثيرة وحوادث أهمها هو التفجير الذي وقع في الكنسية البطرسية بجوار الكاتدرائية في القاهرة يوم ١١ ديسمبر ٢٠١٦. هل يمكن اعتبار تلك الاستمرارية لأوضاع متردية كأحد علامات فشل الثورة ؟
ما الثورة التي نقول بفشلها؟ اللغات تعني بالكلمة معاني متعددة. في حوار مع المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه Régis Debray في عدد خاص عن "الثورة والثورات" من مجلة "بولتيس" السياسية المستقلة عدد شهري ديسمبر ٢٠١٦ ويناير ٢٠١٧ يقول إنه كان أحرى ألا تستخدم كلمة ثورة révolution بمعنى سياسي. فالمعنى الأولي للكلمة يخص علم الفلك ويعني أن جسما دار حول محوره دورة كاملة فعاد لموضعه الأول واستقبال الرئيس أوباما في كوبا كمسيح يجسد تلك الدورة! وأما في السياسة فالثورات الوحيدة التى نجحت هي تلك التي لم يخطط لقيامها. فليس هناك ضمانة لعدم انقلاب على ثورة خطط لها. وأن هناك الكثير من الثوريين لم ينجزوا ثورة بينما هناك ثورة تقنية دون ثوريين "العلماء". فالثورة الحقيقية هي تلك التي غيرت علاقات البشر فيما بينهم وغيرتهم.
في اللغة العربية معنى ثورة يختلف عن اللغات اللاتينية. ففي "لسان العرب"، الثائر هو الطالب بالدم، وهو الذي لا يبقي على شيء حتى يدرك ثأره. والثورة هي أن يدرك "فلان" ثورته أي أدرك من يطلب ثأره.
بين هذا وذاك من اختلاف يحق لنا أن نعود للواقع ونتساءل حول المصير الذي آلت إليه ثورة يناير أو بدقة الحالة الثورية وهل مثلت حالة متفردة؟ أم أن التاريخ يمدنا بأمثلة تتقارب في نهاياتها؟
عادة إذا لم يتمكن الثوار من الاستيلاء على السلطة بالعنف، فإما أن يتم إنهاكهم أو دحرهم أو التلاعب بهم لتظل السلطة بيد من ثاروا عليهم. حسبما يقول الفيلسوف الفرنسي جورج ديدي- إيبرمان. وهو تلخيص لما شاهده كارل ماركس عن ثورة ١٨٤٨ في فرنسا وكيف يمكن أن تتحول هبة ناجحة إلى ثورة فاشلة ووضع السلطة في يد الثورة المضادة.
لعل من أهم الكتابات المبكرة عن الثورة المصرية هو ما قدمه الفيلسوف الفرنسي الكبير "آلان باديو" Alain Badiou في كتابه "صحوة التاريخ" الصادر في أكتوبر ٢٠١١. فهو يرى أن تلك الثورة هي التالية من حيث الأهمية لكومونة باريس عام ١٨٧١. فالانتفاضة العفوية تحولت لانتفاضة تاريخية حيث تمكنت من الدوام لفترة طويلة برغم كل العنف الموجه لها من قبل الدولة وبرغم التضحيات وأنها حشدت كل طوائف وطبقات الشعب بأعماره ودياناته خلف شعار موحد تحققه جسد انتصارها عند تلك الخطوة.
وإن الثورة إبان دوامها جسدت ما يمكن تسميته "شيوعية التجمع". إذ تمكنت من إدارة الميادين وحمايتها وتوفير احتياجاتها وتوحد الجميع حول الهدف المعلن عبر تعدد في الخطاب والحوارات بين مكونات الحشد دون صراع. غير أن المآل الذي وصلت إليه الأحوال هو تسليم السلطة لأعداء الثورة. وهو ما يذكر بما حدث في كومونة باريس التي سلمت الحكم لمن قام بالانتقام من الثائرين برغم أنه ادعى في خطابه السياسي أنه جاد لنصرة الشعب.
وعند النظر للثورة المصرية بمسارها نجدها جسدت منذ البداية، بشكل غير مباشر، فكرة "ثورة دون سلطة" التى يقول بها الفيلسوف الأيرلندي جون هولواي John Holloway. ولكن الفكرة فشلت هي ذاتها في بناء الجزء التالي الذي يدعو إليه بأن تقوم الناس بتشييد بناءات موازية خاصة بها ومستقلة تسبب خلخلة في النظام المهيمن بالعصيان عليه بعدم العمل كترس في ماكينته.
فالثورة ليست خطابا ومظاهرات واحتجاجات واعتصاما وعصيانا فقط، وإنما سلوكيات متسقة يوميا لمن يعتبر نفسه ثوريا ويجسد القول بالفعل. ولكن كيف ومن أجل أي نوع من إسقاط للنظام؟ وهل سقوط الرأسمالية سينتج عنه ما هو أسوء أو ما هو أفضل؟ هذا السؤال يظل بدون إجابة ويترك للمجهول عند هذا الفيلسوف. وينتقد المفكر الفرنسي "دانيال بن سعيد" Daniel BensaÏd في كتابه "في مدح السياسة الدنيوية" فكرة الفيلسوف "هولواي". فالبديل الذي يقدمه الأخير "كحل ثوري للعصر" يجسد بحسب كلماته هو ذاته الذهاب إلى ما هو غير معلوم أو محدد ويقوم على طرح أسئلة بشكل دائم للتوصل لحلول مستمرة الجدة في حاجة لأسئلة جديدة وهكذا إلى ما لا نهاية. فالإشكالية تتمثل في أن الذين يقاومون رأس المال والسلطة برفض الهيمنة عليهما سوف يظلون خاضعين لها مهما كانت صورة مقاومتهم السلبية لهما بابتداع بديل غير واضح المعالم للمقاومة.
كل تلك القضايا التي تدعو لترك فكرة الثورة جانبا هي نتاج الفشل المتكرر عبر التاريخ للوصول للسلطة بالثورة وعدم تمكنها من إحداث تغيرات جوهرية وهي التي وسعت من الشهرة التي نالها "جون هولواي" وخاصة كتابه الأول "تغيير العالم دون الاستيلاء على السلطة" ثم كتابه "تصدع الرأسمالية". يتبى الفيلسوف نظرة نقدية من فكرة الثورة التي ترمي لقلب نظام الحكم وتولي شئون الدولة. فهو يرى أن كل صراع يتبنى تلك الفلسفة لا يزيد الرأسمالية إلا المزيد من القوة بمعاودتها رسم سياسات متجددة فتستمر في البقاء وتفشل إمكانية التخلص منها.
والحل الذي يراه لعالم بديل يستند لفكرة عدم قبول ما تطرحه الرأسمالية بابتداع بناءات مستقلة عن نسق الرأسمالية المهيمن وبهذه الطريقة يحدث خروج عن سطوتها ويحدث ذلك ضعضعة في كيانها. فهو يدعو "للبصق على التاريخ" بكل تجاربه الثورية التي لم تضع نهاية للرأسمالية ولن تضع إذا استمرت معتمدة على الأفكار الكلاسيكية حول الثورة التي سادت حتى القرن العشرين.
غير أن هذه الدعوة تتجه نحو عدمية غريبة تجسدها تلك الكلمات: "أبصق على التاريخ، فليس هناك أكثر رجعية من عبادة الماضي. فليحيا الصراخ الفوري، العفوي دون حدود زمنية، بحياة الحاضر متخلصا من الماضي وغير عابئ بالمستقبل"!! فالقضية لن تكون تغيير المجتمع ويكفي التوقف عن صنعه فسيؤدي ذلك لتحلل وجوده. يكفي الكف عن المساهمة في إعادة إنتاج رأس المال ليسقط كرماد!
وإذا ما عدنا للثورة المصرية فيعود فشلها لعوامل متعددة متشابكة. أهمها الغياب التام للعمل المشترك بين القوى التقدمية. إذ نتج عن غياب تام لرؤية متكاملة توافقية، وليست تلفيقية، للمجتمع المنشود. فلقد قامت الثورة ضد أوضاع مزرية ومهينة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ضحيتها الغالبية من الشعب وبالتالي فرفض بقاء واستمرارية تلك الأوضاع كان يستلزم الرؤية البديلة وفرضها بالاستيلاء على السلطة. غير ذلك هو القبول بعملية ترقيع وترميم لبناء شبه منهار.
ولقد قبلت القوى السياسية التقدمية كل الحلول الوسط ولم تذهب إلى غاية جديدة نوعيا لأنها انصرفت إلى همومها الفردية وتشرذمها الأيديولوجي العتيق وغير المؤسس لا على فكر جديد ولا على واقع يبني هذا الفكر أو ما يماثله في بلد ما. ويمكن القول إن مشاركة بعض الشخصيات التي تحسب على القوى التقدمية في الحكومات المختلفة ساهمت في التضليل ولم تكسب إلا مكانة فردية وشخصية دون أن يعود ذلك في أي لحظة بما هو إيجابي على الثورة بل على النقيض. وأظهر ضحالة المقدرة على تحليل الواقع والسلطة "القديمة – الجديدة" المستمرة.
محدودية المطالب بتحويل شعارات الثورة إلى مجرد مطالب ودعوة السلطة إلى تنفيذها دون أي ضمانات أوقع الثورة في حالة من القناعة والرضا بالوعود من قبل من قاموا بالثورة ضدهم واستقروا في الحكم بانتخابات ودستور يقلص من تلك المطالب ذاتها ويفرغها من معناها ويجرم معاودة المطالبة بها. هذا الغياب للتنظيم وللتنسيق لتحديد الهدف أفرغ الحالة الثورية من فاعليتها وفضها نظرا لعدم امتلاك وسائل تواصل جماهيرية.
غاب أيضا في إطار تصور واضح ومنظم ومنسق الحوار مع الجيش لقبول الوضع الجديد والقيام بدوره الأساسي. فغياب كل هذا كانت نتيجته الانفضاض لملايين لم توجه لها رسالة واحدة محددة تحمل مطالبها فتظل في الميادين حتى تحقيق الغاية النهائية من ثورتها وتضحياتها الفادحة وشجاعة صمودها.
منذ سنوات والمطالبة بتوحد الحركة الوطنية التقدمية يتم طرحه وعندما حدثت ثورة يناير كانت فرصة نادرة إلا أنها أنتجت تعددا في التنظيمات والأحزاب خلف لافتات يمكن القول إن محتواها يكاد يكون هو نفسه ولكن تحت مسميات متنوعة.
لن أتعرض إلا للموقف الذي أتخيله كحل مرحلي تاركا "أسطورة وحدة الحركة الثورية" إلى فكرة براجماتية تتمثل في التركيز على فكرة "الجبهة" بين الأحزاب والتيارات والأشخاص حول القضايا المطروحة، قضية قضية. وأن يترك مؤجلا الحل العسير في وحدة ما. على أن يتم اتخاذ المواقف بشكل جماعي وليس فرض صيغة على الآخرين ومطالبتهم بالتوقيع عليها والانضمام. أي التخلي عن فكرة السلوك الفردي والتفكير في كيفية بناء لاتخاذ القرار بشكل جماعي. وهذا لا يعني عدم مواصلة الحوار والمناظرة حول القضايا المختلف عليها وحولها لتقريب وجهات النظر. وترك جانبا "النقاء الثوري" بعدم المشاركة في الحياة العامة والتواجد في كل الأماكن العامة للدولة التي لها علاقة بمشاكل الشعب.
هذه الخطوة العملية هي وسيلة لتقريب وجهات النظر بشكل لا تجريح فيه لمواقف ولا لتحليلات ولا لأخطاء سابقة إذ سوف يقود ذلك إلى »فك اللمة«. فالأخطاء كثيرة لأن التجارب كانت متوقفة والحصار على الحركة كان شديدا والعطاء النظري قليل وإنشائي أو أيديولوجي لا يحيد عن قناعته برغم التغيرات التي حدثت وتحدث محليا وإقيليما وعالميا.
الحاجة هي في المقدرة على ابتكار خيال سياسي عملي للتواجد والاستمرارية ومخاطبة أجيال لا تنتمي للأيديولوجيات التي سادت وبالتالي ضرورة ابتداع بديل بداية من المشكلات القائمة والحوار حولها مع أصحاب هذه المشاكل ورؤية الحلول التي يرونها وليس فرض حل نظري عليهم.
أخيرا، فاللغة التي على الجبهة تبنيها ليست اللغة السائدة في الكثير من الحالات بالكلام عن العمالة والخيانة ولكن بلغة سياسية تجمع حولها بمنطق سياسي أو اقتصادي أو حقوقي. فلغة "المنشور" العنيف اللهجة ليست دائما هو ما يجمع ولكن لغة سياسية واضحة وبعيدة عن اللغة الإنشائية المملة. نحتاج إلى لغة عملية فعالة لتشكيل الوعي والحركة معا.