سعد القرش
ست سنوات تكفي لبلوغ سن التعلم، ومراجعة الارتجال، والاعتراف بأن التحديات أقوى من شخبطة تسبق اكتساب قواعد الأبجدية في سنة أولى مدرسة، سنة أولى ثورة، وأن رفع الصوت بسباب هذا الفيلق أو ذلك الفريق لا يجدي، ليس أكثر من نفثة مصدور تريحه اللعنات، ولا تترك أثرا، ولا تؤدي إلى تغيير؛ فيعيد الاستبداد إنتاج نفسه، وأحيانا بدعم شعبي يجسد جانبا من مساخر التاريخ والأعراض الجانبية للثورات.
في مطلع 2011 توالى سقوط أنظمة شائخة، غفلت عن إجراء الصيانة الدورية للاستبداد، أو عجزت عن تجديد دماء دكتاتورياتها؛ فانهارت مع صيحات الحالمين بالعدل والحرية. ما بدأ في مصر يوم 25 يناير 2011 ثورة شعبية مغدورة، لا يعيبها تجاوب قوى خارجية تعادي الاستقلال الوطني، وقوى محلية تحرّم الحريات، كل له دوافعه، ولكن الثورة استحقاق شعبي بذلت في سبيل إنجازه أرواح، ومن العبث أن نلوم الشهداء على مآلات الثورات، وتوالي الانتكاسات وفي مقدمتها عودة الاستبداد ـ أو استدعائه ـ متذرعا بحماية المجتمع من فاشية اليمين الديني، وتوجيه إصبع الإدانة للثورات، واتهامها باصطناع كائنات تنهض من رماد التاريخ، وإطلاقها لإيقاف مسار الثورة إلى المستقبل. سوف نكتشف أن من مآثر الثورات العربية التعجيل بإزاحة الأتربة والأغطية، وتسليط أضواء كاشفة على مخلوقات لا تنمو إلا في الظلام، عقارب وحيات تكتسب لون الأرضية، وتتناسل باطمئنان في طيات الفُـرُش، وتحت السجاجيد، ومن الطبيعي إصابتها بجنون؛ فنرى المنايا خبط عشواء، وتستغرق النقاهة فترة آمل ألا تطول، وتتضاعف التكلفة، ثم يأتي وقت الفرز، ويكون لدى المجتمع حد أدنى من الوعي؛ فلا يناصر استبدادا بحجة مواجهة عدو داخلي أو خارجي، ولا يضحي بالحريات التماسا للأمن.
بمناسبة 25 يناير، ولا أقول «في ذكرى 25 يناير»، نستعيد أخطاء وخطايا لم يكن حظ الليبراليين واليسار منها بأقل من قوى اليمين. كل طرف رأى الثورة غنيمة، سلّما إلى السلطة، قفزة إلى سدرة مشتهاة. الحلم بكرسي الرئاسة أصاب بدرجات من الهوس كلا من أبو العز الحريري وحمدين صباحي وهشام البسطويسي وخالد علي ، وتدافع الحلفاء الأربعة الذين أسهموا في إسقاط حسني مبارك نحو القصر، كل يريد المنصب، ويرفض تزكية غيره، فخسروا ولم يعتذروا عن سلوك غير ثوري، بل اعترض أحدهم على نتيجة الديمقراطية التي أفرزت ممثل دولة مبارك وممثل اليمين الديني.
وفي القاعدة الشعبية أدى فراغ السلطة، بعد خلع مبارك، إلى أكبر اعتداء في تاريخ مصر على ممتلكات الوطن، شمل العدوان تلويث نهر النيل وردم مساحات من هذا المعبود القديم «حابي»، والتهام ترع الري وأملاك الدولة والبناء على الأرض الزراعية، في سعار مضى بموازاة التدين الشكلي وإطلاق اللحي مع وعود اقتراب الحكم الديني للبلاد.
سلوك البعض ممن ينتمون إلى النخبة لا يختلف عن سلوك عموم الشعب في التكالب واللهاث لقطف الثمرة.. الحلال عبر تنافس تفسره البارانويا المبكرة للنخبة السياسية، أو الحرام باستحلال النيل وقنوات الري والطرق العامة وطمأنة النفس بالسرقة، بحجة أنها تخص الحكومة الظالمة لا الوطن، في أسوأ تمثيل لانتهاك الوطن، والانقضاض عليه بمجرد تراخي قبضة السلطة. كلا الأمرين يعني أن الثورة مرت طيف خيال، وأن النخبة السياسية والشعب ليسا مؤهلين لتحملها، باعتبارها «أمانة» أوصى بها الشهداء، وسعى إلى حمايتها الباقون على العهد، إلى أن فوجئوا بأنهم صاروا أقلية، ومشتبها بهم، ومطلوبين في قضايا، وعليهم الانشغال بمصائرهم، والبحث عن خلاصهم الفردي، لتدور العجلة دورة كاملة، وتتوقف أمام ليلة 25 يناير 2011.
مساء 19 نوفمبر 2012 رأيت في ميدان التحرير لافتة «لم نقم بثورة لنخلع مبارك، وإنما خلعنا مبارك لنقوم بثورة». والآن، بعد خيبة الأمل، أكسبَ نصفُ الثورة أعداءها مناعة مؤقتة. كانت «الأمانة» أثقل من خلع دكتاتور، و«إدارة الثورة» هي الجهاد الأكبر لبناء الدولة في ضوء القراءة الواعية للمشهد الدولي المعقد. فهل جاءت الثورات مبكرا قبل الاستعداد لتحمل أمانتها؟ أم تأخرت أكثر مما يجب فيئس الجيل المهزوم وانزوى زاهدا في الإصلاح؟ ومن المسؤول عن تلغيم التربة استباقا لثمرة الربيع، فأنبت أشواكا وخناجر؟
فشلت الثورات لتواطؤ قوى أجنبية وجيران تسوؤهم كلمة «ثورة»، وإذا شئنا جلد الذات فالسبب الأهم أن الثورات كانت رهانا لم يحمل حصانات من الوعي العام بقيمة الوطن ومعنى المواطنة وقداسة الحريات، فقصور الوعي لخص الثورة في خلع مستبد، وترك آليات وجهالات سبق أن نجت في إطالة عمر الاستبداد. فقر الوعي خيّل لليمين الديني أن «الله وحده أسقط النظام» وهو شعار أطلقه السلفيون في ميدان التحرير مساء 11 فبراير 2011، وبموجب هذا التفويض الإلهي أعلنت حروب على الحريات، وبدأت سلسلة من الاضطهاد للمختلف في الدين والمذهب، وبعد عامين سيجري تفويض مضاد يفضي إلى الجور على الحريات، أما الأكثر خطورة فهو اتهام الديمقراطية ضمنا بالمسؤولية عن مصير كارثي، ويسارع الشعب إلى التضحية بالحرية، أولى شعارات الثورة، ليصون الوطن من السقوط في حرب أهلية، وباسم تجنب الفوضى يتواصل دفع الضرائب، عقابا للشعب على الثورة، لكي يرضى بالممكن.
من الآثار الجانبية للثورات اشتغال المثقف بالسياسة، اشتغال بالعارض لا انشغال بالدلالة، إذ تكشف حداثة عهده بها الكثير من مظاهر السذاجة، حين يتخلى عن وقار الباحث، ويتوقف عند ظاهر الأمور، فرحا بإعلان اكتشاف شائعة تسرّبها السلطات بغير براءة، ويكتفي من السياسة بأمرين: تسويغ الطبعة الجديدة المزيدة وغير المنقحة من الاستبداد بحجة الاستقرار، أو استسهال سباب مجاني لا ضرر منه ولا ضرار، فيشكل للسلطة المستبدة رصيدا يدعم نصيبها القليل من الحريات. ولا يلتقي الفريقان رغم انتباه طه حسين إلى أنه إذا «تغلب عنصر الاستقرار فالأمة منحطّة، وإذا تغلب عنصر التطور فالأمة ثائرة، والثورة عرض، والانحطاط عرض، كلاهما يزول ليقوم مقامه النظام المستقر على اعتدال هذين العصرين».
امتهان كلا الفريقين لهذا النهج من الانحطاط والصراخ لا يكلف عبئا، أما العواصم من القواصم فهي الأكثر صعوبة: تثقيف الذوق العام والارتقاء به، وبناء الوعي، لكي ينتهي إلى الأبد سؤال: وما البديل؟ وتخرج البلاد من ثنائية الحكم الديني والعسكري، إلى آفاق يسهم المثقف في جعلها أكثر رحابة، لا مكان فيها لمصادرة الله لصالح فرد أو حزب، وتحضر سلطة القانون بديلا لقوة تصادر الحريات بدعوى الحرب على الإرهاب وهو خطر حقيقي لا ينكر نفسه، ويؤمن المواطن بأن الخلافة ليست فريضة، ولن تقربه إلى الله، وأن الاستبداد السياسي لا يحول دون الاحتلال بل يعجّل به، ثم يستثمره ولو ضحى بآخر مواطن عجز عن الفرار.