السبت 20 ابريل 2024

بعض الغناء بكاء .. حوار مع نزار قباني

مقالات5-1-2023 | 09:38

ظل نزار قباني قابضا علي طوق الياسمين، ونحن نشق شوارع دمشق العتيقة في الطريق إلى مقهى الهافانا، ذلك المكان الذي احتضن أعلام الثقافة العربية الكبار، فهو أشبه بمقهى ريش في وسط القاهرة ومقهى الفيشاوي القابع في خان الخليلي، وكان من رواده محمد الماغوط وبدر شاكر السياب ومظفر النواب، جلسنا إلى طاولة صغيرة في ركن من المقهى، آنذاك كنت أتحسس أسئلتي، فالاقتراب من بلقيس الراوي، والحديث عنها يعني كل شيء لدى نزار قباني.

 
طلبنا القهوة، وعاودت الحديث معه، لكن هذه المرة متسائلا عن سر عشقه للقهوة، فأجابني أن هناك أسطورة تقول إنها تجلب الغائبين، وتحسس طوق الياسمين.. وهنا وجدت الفرصة سانحة لإدارة دفة المقابلة الصحفية، سألته هل حقا توقفت عن نظم الشعر؟! وكيف كانت العودة؟

 
عاود النظر إلي طوق الياسمين قائلا لمدة 3 سنوات، لكنها بلقيس التي أعادت الدم للعروق، كانت أعظم الأبجديات، وسيدة النساء، إنها القصيدة التي صنعت اسم نزار قباني، وسطّرت أجمل قصص الحب، كانت كل النساء على الأرض، حينما التقيت عينها وقعت في عشقها، كنت كالممسوس عشقا، لم أحتمل البعد عنها لكن القدر حال بيننا 7 سنوات، هي في الأعظمية وأنا في مدريد لكن شريان الحب لم ينقطع.

 
هنا قاطعته متسائلا آلم يتملك اليأس يوما من حبها؟ أجابني وهل مع الحب يأس؟! كنت مسكونًا بها وكانت مسكونة بي، والشعر كان رفيق دربنا، وعند زيارتي لبغداد بعد سنوات كان الشعر رسول الحب، أخذ الشاعر يتذكر تلك الأمسية التي ألقي فيها قصيدته «إفادة في محكمة الشعر» قائلا

 
مرحباً يا عراق، جئت أغنيك وبعـضٌ من الغنـاء بكـاء
مرحباً، مرحباً.. أتعرف وجهاً حفـرته الأيـام والأنـواء؟
أكل الحب من حشاشة قلبي والبقايا تقاسمتـها النسـاء
كل أحبابي القدامى نسـوني لا نوار تجيـب أو عفـراء
فالشفـاه المطيبـات رمادٌ وخيام الهوى رماها الـهواء
سكن الحزن كالعصافير قلبي فالأسى خمرةٌ وقلبي الإنـاء
أنا جرحٌ يمشي على قدميه وخيـولي قد هدها الإعياء
فجراح الحسين بعض جراحي وبصدري من الأسى كربلاء 

توقف نزار برهة من الوقت كأن روح بلقيس قد حلت به فتنفس الصعداء ليروي كيف تدخل الرئيس العراقي أحمد حسن البكر لدى أسرة بلقيس حتى تم الزواج وانتقل معا إلى بيروت قائلا كانت بلقيس هي ملكة النساء هي كل النساء. 


سألت من كتب دستور الحب نزار قباني هل من الحب ما قتل؟ 

رمقني نزار بنظرة تكاد تكون مزيجا من التعجب والاستنكار، شعرت آنذاك بالخجل، جاءت إجابته في صيغة سؤال استنكاري، وهل من مغرم بقلب أن ينحره؟! في زمانكم لم تعرفوا معنى للحب، فارق كبير بين الامتلاك والحب، في الحالة الأولى لا يوجد اختيار، أما في الثانية اختيار وعشق وتضحية كلاهما مسكون بالآخر، انفعل الشاعر مرددا نحن أمة تغتال القصيدة، لا تعرف ما معنى الأنوثة.

 
وهنا وجدت الشاعر استحضر ذكرياته مع بيروت تلك المدينة التي عشقها ووصفها بـ «يا ست الدنيا يا بيروت» فهي شاهد على أروع قصائده، وحبه الكبير، وأيضا أكبر لحظة مأساوية في حياته خلال ديسمبر 1981 حادث تفجير السفارة العراقية في بيروت، لم يتمالك الشاعر نفسه وهو يعيد على مسامعي قصيدته 

«شكراً لكم  
شكراً لكم  
فحبيبتي قتلت.. وصار بوسعكم 
ان تشربوا كاساً على قبر الشهيدة 
وقصيدتي اغتيلت وهل من امه في الارض 
الا نحن.. نغتال القصيدة 
بلقيس كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل»  

كاد قلب نزار أن يتوقف من شدة الحزن والفقد، وكان هناك سؤالٌ يراود ذهني قبل أن ابدأ رحلتي للقاء الشاعر الذي أثار الجدل ونظم أروع قصائد الحب، هل مس العشق قلبه بعد قصة حبه الخالد مع بلقيس الراوي أم كانت آخر الملكات على قلبه؟ ولكن تلك اللحظة لم تكن تسمح بمرور السؤال وانتظار إجابة قاطعة عليه، حاولت أن يأخذ الشاعر استراحة محارب قبل أن نعاود إلى المقابلة الصحفية، وأراد هو البقاء مع طوق الياسمين وكأن بينهما سرا لا يمكن لطوق الياسمين أن يبوح به لأحد سواه..

(البقية الأسبوع المقبل)