الثلاثاء 23 ابريل 2024

«رسالة فلسفة البير كامو العبثية»

مقالات5-1-2023 | 18:28

في مثل هذه الأيام مات البير كامو الصحفي البارع، والمحرر ورئيس هيئة التحرير، ذلك الفذ الذي أثقل  أسهمه بتفوقه  ككاتب مسرحي، ومخرج، وروائي، ومؤلف قصص قصيرة، وكاتب متمرس للمقالات السياسية، وقبل كل ذلك  فيلسوف رغم نفيه المتكرر لذلك التصنيف!.

بالإبحار في عالمه سنجده وقد تجاهل  الفلسفة المنهجية، ولم يكن مؤمناً بالعقلانية بقوة، عاملاً على تأكيد العديد من أفكاره الرئيسية بدلاً من مناقشتها، مقدماً أفكاره المغايرة في استعارات مجازية؛ حيث  كان مُنشغلاً بالتجربة المباشرة والشخصية، موجهاً كل طاقته للتفكير بمسائل تتعلق بمعنى الحياة في مواجهة الموت.

فصل كامو نفسه بقوة عن الوجودية، لكن رغم ذلك، قام بطرح أحد أشهر المسائل الوجودية المعروفة في القرن العشرين، والتي جاءت في مُستهل كتابه (أسطورة سيزيف) من خلال فلسفة حقيقية واحدة ألا وهي الانتحار”.

وقد تركتنا فلسفته عن العبث في مواجهة صورة مدهشة عن مصير الإنسان؛ حيث يدفع (سيزيف) بصخرته لأعلى الجبل بشكل لانهائي، فقط ليراها تتدحرج عندما يصل قمة الجبل؛ مما يقودنا لرسالة  فلسفته؛ حيث  حملت أسلوباً سياسياً في كتابه (الإنسان المتمرد)، والذي أكسبه سمعة كأخلاقي فاضل.

وقد ورطته أيضاً في صراع مع صديقه "جان بول سارتر"، ليثيرا أكبر انقسام فكري-سياسي في عصر الحرب الباردة، حيث أصبحا بالتعاقب الأصوات الفكرية الرئيسية لليسار المؤيد للشيوعية، والمناهض لها.

إلى جانب ذلك، بيّن كامو نقده للدين وعصر التنوير وكافة مخططاته، بما فيها الماركسية، وذلك في طرحه الأسئلة الفلسفية المباشرة والإجابة عليها، والتي نال عنها جائزة نوبل للأدب.

 تشكك أعماله -(أسطورة سيزيف) والعمل الفلسفي الآخر (الإنسان المتمرد)-، فيما استخلصناه عن معنى الحياة بشكل منهجي، ومع ذلك يؤكد كلا العملين بشكل موضوعي على إجابات صحيحة حول الأسئلة الرئيسية التي تخص كيفية العيش.

 بدا كامو متواضعاً في وصفه لطموحاته الفكرية، إلا أنه -كفيلسوف، كان واثقاً بما يكفي ليوضح فلسفته الخاصة، إلى جانب نقده للدين، والنقد الأساسي للحداثة.

بنى كامو صرحه الأساسي للأفكار حول المصطلحات الأساسية للتمرد والعبث، آملا أن يحلّ مسائل الموت والحياة المحفزة له، بينما يرفض في الوقت نفسه فكرة النظام الفلسفي بحد ذاتها.

تتعلق المفارقة الأساسية التي نشأت في فلسفة ألبير كامو بمفهومه المركزي عن العبثية؛  حيث يجادل كامو بأن البشر غير قادرين على الهرب من طرح سؤال: “ما معنى الوجود؟”، وهو بذلك يقبل الفكرة الأرسطية القائلة بأن الفلسفة تبدأ بالتساؤل.

ومع ذلك، ينفي كامو وجود إجابة على هذا السؤال، ويرفض كل غاية علمية، ميتافيزيقية، أو غاية بشرية مختلقة من شأنها أن توفر الإجابة الوافية. بالتالي، عندما قبِل كامو أن الإنسان يسعى حتماً إلى فهم الغاية من الحياة، فهو قد اتخذ موقفاً متشككاً من بقاء الكون، والمشروع الإنساني في حالة صمت تجاه أي غرض من هذا النوع.

وبما أن الوجود نفسه لا معنى له، فالواجب علينا أن نتحمل الفراغ الذي يتعذر حلّه. وهذه الحالة المتناقضة بين طرح أسئلة مطلقة يستحيل الإجابة عنها بشكل واف، هي ما يطلق عليها ألبير كامو العبثية؛  إذ تستكشف فلسفة كامو العبثية، العواقب المنبثقة من هذه المفارقة الأساسية.

أفضل التقاط لفهم عبثية ألبير كامو، تكمن في صورة "سيزيف" ، وليس حجته، حيث يجهد نفسه في دفع صخرته لأعلى الجبل، ويشاهدها تتدحرج، ثم نزوله خلف الصخرة للبدء من جديد في دائرة لا نهائية. ليس بوسع البشر، بعد ذلك، إلا أن يتساءلوا عن معنى الحياة، تماما مثل سيزيف، لنرى إجاباتنا تتعثر للأسفل مرة تلو الأخرى.

إذا قبلنا هذه الأطروحة حول العبثية كأساس للحياة، بجانب مقاربة كامو للأسئلة الفلسفية المناهضة للفلسفة، فلا يسعنا إلا أن نتساءل: ما هو الدور المتبقي للتحليل المنطقي والجدل؟ ألا يتزعم ألبير كامو الفيلسوف، موت الفلسفة في إجابته على سؤال ما إذا كان الانتحار تخليّا عن ميدان الجدل والتحليل، والاستعاضة بصورة مجازية للإجابة على السؤال، إن لم يكن للحياة غرض ، فليس بمقدورنا إلا أن نتساءل  لماذا نستمر بالعيش وهو ما جاء على لسان  سيلينوس عندما تمنى أنه لم يولد، وتمنى لو يموت بأسرع وقت ممكن؟

 كتب (فرانسيس جينسون) قبل فترة طويلة من نقده الشهير لـ (الإنسان المتمرد) الذي عجل بكسر علاقة ألبير كامو وسارتر؛  أليست الفلسفة العبثية متناقضة في شروطها، بمعنى أدق هي ليست بفلسفة على الإطلاق، بل هي حالة ضد العقلانية.

 أشاد العديد من العلماء  بإنجازات كامو الأدبية البارزة، وموقفه كسياسي أخلاقي، بينما اكتفوا بلفت الانتباه لادعاءاته المشككة وحججه،  إلا أن هناك استثناء مهم من هؤلاء وهو كتاب رونالد سريجلي (نقد ألبير كامو للحداثة؛ حيث تناول ازدواجية ألبير كامو المتعمدة كفيلسوف، إلى جانب مناقشة فلسفته.

ولا يتعلق الأمر بمجرد عرض قراءة فلسفية لهذا الكاتب، بل بتناول فلسفته على محمل الجد- مستكشفين لمقدماتها، تطورها، بنيتها، وتماسكها.

وإذا قمنا بذلك سنرى أن كتاباته تحوي أكثر من مجرد مزاج، أو صور، وتأكيدات شاملة غير مدعومة، بل تحتوي على أكثر من ذلك.

يأخذ كامو شكوكه إلى أقصى حد ممكن كشكل من أشكال الشك المنهجي، بحيث يبدأ من افتراض الشك إلى أن يجد الأساس لاستنتاج خال من الشك.

يبني كامو بنية فلسفة فريدة من نوعها، والتي غالبا ما تترك بناها غير معلنة، ولا تُناقش بشكل واضح، لكنها تتطور في مراحل متميزة على مدار حياته القصيرة. يمكن بالتالي قراءة فلسفة كامو كجهد بارع لشرح ما يستلزمه عبثية الوجود الإنساني، وليس فقط تأكيده.

في هذه العملية يرى ألبير كامو مسألة الانتحار على أنها استجابة طبيعية لفرضية أساسية، أي أن الحياة عبثية بعدة طرق.

فكما رأينا، فإن وجود الحياة وغيابها (أي الموت) تُبين الوضع ،أي من العبث أن نبحث باستمرار عن معنى في الحياة حينما لا يكون هناك أي معنى، ومن العبث أن نأمل بشكل من أشكال الوجود المستمر بعد موتنا، بالنظر إلى النتيجة النهائية وهي فناؤنا.

لكن كامو يرى أن من العبث محاولة معرفة فهم أو تفسير العالم، حيث يرى أن محاولة اكتساب المعرفة العقلانية غير مجدية. هنا يحارب كامو نفسه ضد العلم والفلسفة رافضاً ادعاءات جميع أشكال التحليل العقلاني.

ألبير كامو فاز بجائزة نوبل عام 1957، بعد نشر رواية (السقوط)،والتي تعد  تحفة أدبية تبرهن على قدرة فردية وسط كتاباته الفلسفية.

إن الحياة ليست واحدة، وأمر بسيط، بل سلسلة من المعضلات والضغوط. إن أكثر سمات الحياة التي تبدو بسيطة هي في الواقع معقدة وغامضة، يقترح كامو بأن نتجنب حلها.

نحن بحاجة إلى مواجهة حقيقة أننا لا نستطيع تطهير أنفسنا من الدوافع التي تهدد بتخريب حياتنا. وإن كان لفلسفة كامو رسالة وحيدة، ستكون كالتالي: يجب علينا أن نتعلم التسامح، ونتقبل الإحباط والتناقض الذي لا يمكن للإنسان الهرب منه.

Dr.Randa
Dr.Radwa