الأحد 5 مايو 2024

العاصمة من منف وحتى العاصمة الإدارية الجديدة.. القاهرة.. الحياة والتسامح

العاصمة الإدارية الجديدة

أخبار12-1-2023 | 18:10

حلمى النمنم

قبل عدة أسابيع أصدر رئيس مجلس الوزراء د. مصطفى مدبولى قرارا بمد حدود القاهرة شرقا لتشمل "العاصمة الإدارية" ، وهكذا صارت العاصمة الإدارية جزءا أو حيا من أحياء القاهرة، البعض يسميه "الحى الإدارى"، باختصار القاهرة هى العاصمة وستبقى كذلك، لن يتم سحب البساط من تحت أقدام القاهرة كما تخوف البعض وكما يتمنى البعض الاخر. ما يحدث – الآن – هو أشبه  شىء  بما جرى فى العاصمة زمن الخديوى إسماعيل، حين انتقل مقر الحكم من قلعة صلاح الدين إلى قصر عابدين، و تحركت الإدارة من القاهرة الإسلامية إلى ما كان يسمى وقتها "القاهرة الجديدة" أو "القاهرة الخديوية ".

عبر التاريخ تنقلت العاصمة من "طيبة" القديمة أى الأقصر، إلى منف "الجيزة حاليا" ومنها إلى الشمال على البحر المتوسط إلى الإسكندرية فى العصر الرومانى .. إلى أن جاء الفتح العربى و القائد الفذ عمرو بن العاص، دخل عمرو مصر قادما من الشام – فلسطين – عبر سيناء، و بدلا من أن يتجه إلى المنزلة ومنها يسلك عبر النيل إلى حصن بابليون، وهو الطريق المتبع وقتها، فضل العكس تماما، إذ اخترق الصحراء الشرقية وصولا إلى منطقة بابليون، الحصن العسكري الأقوى للرومان، والسائد تاريخيا أن عمرو بحنكته السياسية استولى علي الحصن بالتفاوض، أى "صلحا لا عنوة" كما يقول بعض المؤرحين، وهناك قرر أن يقيم العاصمة، أى الفسطاط، حيث بنى الجامع، جامع عمرو، أقدم جامع فى مصر وفى إفريقيا كلها، وإلى جوار الجامع أقيمت البيوت والمنازل للجنود والفرسان الذين رافقوه.

وكان عمرو بن العاص بهذه الخطوة ينهى الحقبة الرومانية فى تاريخ مصر والمنطقة كلها، ويعيد العاصمة إلى مقرها، الفسطاط تقابل منف على الضفة الأخرى من النيل، عاد الفتح العربى إلى الطابع المصرى القديم، بحيث تكون العاصمة تطل على النيل أو قريبة منه وليست على البحر المتوسط.

بعد عهد عمرو بن العاص وتحول الدول العربية والإسلامية، تحركت العاصمة قليلا، لكن فى نفس الحيز الجغرافى، لعسكر ثم القطائع إلى جوار الفسطاط، ثم القاهرة الفاطمية وهكذا بقيت زمن الأيوبيين، فقد أضيفت قلعة صلاح الدين وبعض المنشآت داخلها من بيوت ومدارس ثم استمر الوضع على هذا النحو زمن المماليك و العثمانيين وصولا إلى العصر الحديث حيث حكم محمد على ومن جاء بعده من أفراد الأسرة حتى زمن جلالة الملك فاروق  سنة 1952ومن بعده العصر الجمهورى، وها نحن ندخل  "الجمهورية الجديدة" مع الرئيس السيسى في نفس العاصمة فقط تتحرك مقرات الإدارة والحكم في نفس الحيز الجعرافى، أى القاهرة، منف .. الفسطاط .. وصولا إلى يومنا هذا.

سوف نلاحظ أن أحد معايير تقييم حقبة سياسية ما، كان يرتبط بمدى الإضافة التى قدمها للعاصمة من مقرات ومعمار جديد وأحياء جديدة، أو حتى مدن كاملة ملتصقة بها كضواحى، المعادى ..الزمالك .. مصر الجديدة .. مدينة نصر ..أكتوبر هكذا.

وحين يقول كثير من المؤرخين والباحثين أن الحكم العثمانى، كان حكما ظلاميا وفاشلا، لأنه لم يضف إلى القاهرة شيئا ، لم يتم شارع واحد بها ، اللهم إلا بناء بعض الدور والمساجد.. أين ذلك من إنشاء حى العباسية، الذى شرع فيه الوالى عباس حلمى "الأول"، أو القاهرة الخديوية "إسماعيل باشا"، مدينة نصر "جمال عبد الناصر" ..مدينة أكتوبر "السادات" و هكذا.

منف أو الفسطاط أو القاهرة، كلها مسميات للشىء نفسه، العاصمة، وهى تمثل استجابة عبقرية لضرورة الجغرافيا ، موقع متوسط بين الشمال والجنوب، الوجه البحرى والوجه القبلى .. ولما كان النيل هو شريان الحياة وكان وسيلة المواصلات الأسرع والأكثر أمانا، لذا كانت قريبة منه، حيث يتم شحن البضائع والمنتجات من القاهرة إلى الصعيد والعكس، ولما تأسست السكك الحديدية ، صارت القاهرة "باب الحديد" هى المركز وسار القطار بمحاذاة النيل .. لم تصبح القاهرة مركز الحكم و الإدارة فقط ، لكنها كانت قبلة المصريين جميعا، لذا أطلق عليها بين عموم المصريين "مصر" لأنها تلخص كل شىء.

حين كانت الإسكندرية هى العاصمة، كانت مدينة مغلقة، يسكنها فئة الحكام "الرومان" ومن يحيط بهم، لم تكن متاحة أمام المصريين جميعا، كانت مختلفة عن بقية المدن، اجتماعيا وثقافيا .. لكن القاهرة كانت مفتوحة، فى زمن المماليك حين كان النيل يجف وتقع المجاعات، كانت الأهالى من الوجه البحرى أو القبلى، يأتون إلى القاهرة، فيجدون فيها  القوت والإقامة، حتى تزول الأزمة.. وكان إذا طغى مملوك على الأهالى  فى إحدى المحافظات أو المدن يهرعون إلى القاهرة شاكين حتى ترفع عنهم المظالم، كان يمكن أن يقيموا شهورا بها، وهم موضع ترحيب وتعاطف من القاهريين.

من يراجع تاريخ الجبرتى "عجائب الآثار" و من قبله "بدائع الزهور" لابن اياس و وغيرهما من المؤرخين، سوف يجد عشرات الوقائع التى لجأ فيها الأهالى من أنحاء مصر إلى "مصر" القاهرة .. و امتد الأمر حتى عصرنا الحديث، فى سيرته الذاتية "حياتى" شرح المؤرخ الإسلامى أحمد أمين، كيف جاءت أسرته من الشرقية واستقرت في أحد أحياء القاهرة القديمة، نعرف من سيرة نجيب محفوظ أن جده وأسرته نزحوا من مدينة رشيد، موضع التقاء النيل بالبحر المتوسط إلى حى الجمالية بالقاهرة، وهكذا عشرات الأسماء .

وكانت القاهرة دائما – لازلت – مدينة متسامحة ، لا تحمل استعلاء علي القادم أو الوافد إليها، ولا تجعله منبوذا، أو مهمشا القاهرة مدينة من يقيم بها أو يدخلها، بلا تمييز وبلا تفرقة، لذا كان كل من يبحث عن فرصة أفضل للحياة أو ضاقت به الدنيا خارجها، لأى سبب، يفر إلى القاهرة، حيث يحل أهلا و يقيم سهلا، فى "الأيام" كانت القاهرة الملاذ و النجاة له من ركود الحياة فى عزبة الكيلو بالمنيا حيث لم يحظ هناك بسبل الحياة لكن فى القاهرة وجد كل شىء وأهمه التعاطف والحب.

وفى أدبنا الحديث، لن تجد مدينة شغلت الكتاب و الأدباء، بل استحوذت عليهم، مثل القاهرة، خلدها نجيب محفوظ في معظم أعماله، الثلاثية تتناول القاهرة االإسلامية، و كذلك بداية و نهاية، فضلا عن زقاق المدق وغيرها من روائع نجيب ولم يكن الأمر وفقا على اسم بعينه ولا جيل محدد، الروائى مكاوى سعيد جعل القاهرة محور ابداعاته، وكتاباته النثرية و الصحفية، أصدر  قبل  وفاته سنة 2017 كتابين  عنها، الأول بعنوان " القاهرة و ما فيها " و الثانى "مقتنيات وسط البلد" اهتم فى الكتابين  بالبشر والناس والحياة داخل هذه المدينة الساحرة، التى لا تملك سوى ان تعشقها، حتى لو شعرت بقسوتها في لحظة ما، مدينة لا تتوقف الحياة فيها لحظة ، ليلا و نهارا تعج بالحياة و الحركة .. صيفا و شتاء.. لا يعطلها حر الصيف ورطوبته المرتفعة، و لا سيول الشتاء و برد طوبا.

كثير من الكتابات اهتمت بالقاهرة و ركزت عليها، و ليس أهم من المقريزى فى خططه ولا على مبارك، لكن هؤلاء جميعا اهتموا بالعمارة وبناء الأحياء وإقامة المنشآت، تاريخ كل حارة وشارع و زقاق و العطوف و غيرها، فضلا عن الكنائس والمعابد والاسبلة والمستشفيات و غيرها وغيرها، وعلى نهج المقريزى فى خططه وكذلك على مبارك  سار عشرات الباحثين و الكتاب مثل الدكتور جمال حمدان وآخرين ، لكن مكاوى سعيد كان اهتمامه بوقع الحياة، وجمالها الإنسانى، الذى يجعل من القاهرة جنة الله على الأرض.

كما شغلت القاهرة الشعراء وأثارت مخيلتهم منذ العصر الإسلامى وإلى يومنا هذا، وشدى كبار المطربين بعدد من تلك القصائد.

 كل هذا زاد من تطلع المصريين نحو العاصمة، فازداد الضغط السكانى عليها، حتى تجاوز تعدادها عدد سكان بعض الدول، فتركزت الخدمات بها، وبات كثير من المواطنين "مضطرين" إلى المجىء نحو القاهرة لاتمام بعض الإجراءات .. و لعل هذا ما دفع البعض إلى المطالبة فى نهاية الستينيات وسنوات السبعينيات بضرورة تأسيس عاصمة جديدة ، غير القاهرة، للتخفيف عنها والحد من الضغط عليها.

و يبدو أن الرئيس الراحل محمد أنور السادات، اقتنع بهذا الرأى، لذا شرع فى تأسيس مدينة السادات، لتكون العاصمة البديلة ، وتم بناء مقر لمجلس الوزراء بها وعدد من مؤسسات الحكم، فضلا عن الشروع فى تأسيس مطار، غير أن السادات نفسه، قبل استشهاده فى أكتوبر 1981 اقتنع بعدم جدوى نقل العاصمة فبقيت مدينة السادات، مدينة جميلة ورائعة، لكن لا يمكن أن تكون عاصمة، فهى الآن تتبع محافظة المنوفية، وبها جامعة متميزة، ببساطة للجغرافيا ضرورتها وأحكامها التى يجب أن تراعى و تحترم ، لدينا مدن عظيمة في أنحاء البلاد من أسوان وحتى الاسكندرية، مرورا بطنطا و المنصورة ، فضلا عن المنيا و أسيوط وغيرها وغيرها، لكن العاصمة لها اعتبارات أخرى وموقع آخر، هو القاهرة .

 ومن حسن التقدير و صواب التفكير سنة 2014، أن النية اتجهت إلى بناء "العاصمة الإدارية" داخل حدود القاهرة، ونتذكر جميعا أن حملات صحفية قامت، شارك فيها عدد من كبار الكتاب، فضلا عن بعض الشخصيات العامة، لاختيار اسم للعاصمة الجديدة، غير القاهرة ، بما يؤكد أن القاهرة لن تكون هى العاصمة، وصل الأمر إلى حد المطالبة بمسابقة عالمية لاختيار الاسم و الشعار الجديد ، على غرار ما حدث عند تصميم مبنى مكتبة الاسكندرية فى نهاية التسعينيات ، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، وقتها كان دولة رئيس الوزراء مصطفى  مدبولى هو وزير الإسكان، يومها قال "العاصمة الإدارية جزء من القاهرة"وهذا يعنى أن التفكير و المشروع كله من اللحظة الأولى لدى الدولة  أن القاهرة هى العاصمة.

 القاهرة تبقى القاهرة ، ندللها و نعتز بها و نقول عنها "مصر" .