الخميس 9 مايو 2024

سايس.. عاصمة مصر في العصر الصاوي

د. حسين عبد البصير

ثقافة13-1-2023 | 14:04

د. حسين عبد البصير

سايس أو صا الحجر أو صالحجر هى مدينة ذات تاريخ عريق. وتقع في مركز بسيون في محافظة الغربية عند فرع رشيد، (حوالي مائة كم جنوب شرق الإسكندرية). وتقترب من ساحل البحر الأبيض المتوسط، وكانت في الماضي عبارة عن منطقة مستنقعات. وكانت المنطقة موجودة منذ العصر الحجرى الحديث. وتطورت خلال عصر الأسرات المصرية القديمة.

كانت تسمي في مصر القديمة باسم "صاو"، وحرفها الإغريق بعد ذلك إلى "سايس، ثم سُميت في العصر الحديث "صالحجر". وما يزال موقعها إلى الآن يحمل الاسم القديم، غير أنه من الواضح أنها قد هُدمت تمامًا. ووصلت مدينة سايس إلى أهميتها في المجال السياسى في الفترات المتأخرة من تاريخ مصر القديمة، حين أصبحت عاصمة مملكة كبيرة أسسها كبار حكام "الليبو"، وانبثقت منها الأسرتان الرابعة والعشرون والسادسة والعشرون اللتان خاضتا صراعا استمر من أجل توحيد مصر.

كانت الإلهة نيت ربة تلك المدينة . وكانت تضع على رأسها تاج مصر السفلى الأحمر وتمسك بالقوس الذي كان من رموزها. وكان لمدينة سايس خلال الدولة الوسطى معبودة تسمى "نبت صاو" بمعنى "سيدة سايس".

وكانت تلك المعبودة تمثل أحيانًا فى صورة الربة نيت والتي كان لها معبد كبير في تلك المدينة. وفي عصر الدولة الحديثة، كانت الإلهة موت ربة من ضمن ربات سايس. وفي العصور المتأخرة، صارت الربة حتحور سيدة سايس. واستطاعت الإلهة نيت -أم الإله رع- أن تحتل مكانة الإله آمون كإلهة أولى خلال عصر الأسرة السادسة والعشرين الصاوية (664 - 526 قبل الميلاد).

نجح الملك بسماتيك الأول في إعطاء سايس رونقها، إذ حصلت على عناية كبيرة في عهده وفي عهد خلفائه حتى صارت ذات مركز مرموق. ووصف المؤرخ الإغريقى هيرودوت المعبد الكبير في سايس. ووصف المدينة بأنها كانت مركز التجارة بين اليونان ومصر. وكانت التبادل التجارى بين سايس واليونان ودول البحر المتوسط يتم عن طريق "أبوقير" اليوم، قبل الإسكندرية.  

تقع المنطقة الأثرية شمال القرية. وتمثل بقايا العاصمة الصاوية. وفي العصر الحديث، بدأت أعمال الحفائر في صالحجر عام 1850 ثم في عام 1901. وتم اكتشاف عدة تماثيل نُقلت إلى المتحف المصري بالقاهرة، منها تمثال لـ"واح أيب رع"، وتمثال آخر لـ"سماتاوى تف نخت". وتم نقل بعض التماثيل الصاوية إلى المتحف اليونانى-الرومانى بالإسكندرية. وقام بأعمال حفر بالمنطقة الأثرية عدد من البعثات الألمانية والإنجليزية والسويدية.     

فى عام 1997، ترأست عالمة الآثار والأستاذة بجامعة درهم البريطانية الدكتورة بينلوب ويلسون البعثة الأثرية بمنطقة تل ربوة الأحجار في سايس القديمة. وتوصلت لعدد كبير من النتائج المهمة. وكان أهم الاكتشافات الأثرية العثور على مجموعة من النقوش. كما تم التوصل إلى وصف لمدينة سايس. وقد وجدت البعثة ما يشبه المربع مساحته 700 متر في 780 مترًا. وكان يحيط به جدار مرتفع يصل إلى عشرين مترًا. وذلك يمكن أن يكون قلعة أو حصن كان في تلك المدينة. كما وجدت البعثة أيضًا حفرة تعتبر موقعًا لتجميع مياه الصرف.

وعثرت البعثة على ركام من الحجر الصوان والخزف والعظام، مما مكنها من الحصول علي العديد من المعلومات. ومن بين الركام، وجدت كتلة سوداء، وهي كتلة من عظام الأسماك تعود إلى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، مما يؤكد على أن أهل المكان قد احترفوا مهنة الصيد، واستخدموا في تربية الأسماك أحواضًا من الطين، والتي كانت مخصصة لصيد القراميط. ومن بين الآثار التي حصلت عليها البعثة رمح كان يُستخدم في صيد الأسماك. وقد عاش بالمنطقة الجنود والزراع الذين كانوا يقومون على خدمة الجيش. ويبدو أن أغلب سكان ذلك الموقع كانوا ينتمون إلى الطبقة الفقيرة. وذلك ما تم التوصل إليه عن طريق دراسة طرق ووسائل الدفن. وعلى الرغم من كونها منطقة انتشرت بها العشوائيات، فإنها تميزت بالتنوع الطبقى، وذلك من واقع التنقيب عبر طبقات الأرض الأولى. ومن بين الاكتشافات التي عُثر عليها في مدينة سايس، معبد الربة نيت في الجنوب. وقد أشارت عدة مصادر إلى وجوده، ولكن البعثة لم تتوصل إلي مكانه بالتحديد، إذ ربما يكون تحت طبقات من الأرض. كما عثرت البعثة على مجموعة من تماثيل الأوشابتي. وذلك قد يكون دليلاً على وجود مقبرة ملكية في ذلك الموقع.

تعد سايس أول عاصمة لمصر في الغرب، وتعتبر مثالاً مبكرًا للإسكندرية التي أيضًا تعتبر من العواصم التي تقع في غرب الدلتا، فغالبًا كانت عاصمة البلاد في شرق الدلتا؛ وذلك لحرص الملوك على العلاقات مع بلاد الشرق الأدنى القديم مثل سوريا وفلسطين. واعتبرت سايس مدينة مستقلة ذاتيًا. وتغير المشهد التاريخي على مدار ست آلاف سنة بتغير السكان. ويعود ذلك إلى فيضان النيل، حيث حدثت ترسبات طينية.

وخلف الفيضان طبقة تزيد على 0.4 متر. وهي طبقة قد تبدو صغيرة. ولكن بمرور السنين قد وصل تراكم الطمي إلى عدة أمتار، مما أثر على مجرى النهر والأرض من حوله. فبعد مرور آلاف  الأعوام من تجمع الطمي، تغيرت المنطقة من الناحية الجيولوجية، فانخفضت التلال التي كانت موجودة. كما تم غمر الأودية بالكامل، بالإضافة إلى الركام المتناثر المتخلف، أو بمعنى آخر زادت الرقعة المزروعة. وذلك يشير إلى بداية زيادة النمو الاقتصادي مما شجع على أن تكون حاضرة من حواضر مصر. وأقيمت مدينة سايس في منطقة نائية، إذ لا يوجد حولها، وفي حدود دائرة قطرها 15 مترًا، أية مواقع أثرية حتى كفر الشيخ.  

من بين أوجه التقارب بين مدينة الإسكندرية ومدينة سايس، التشابه في مواد البناء والأحجار المستخدمة في نحت التماثيل. كما أن بعض الأحجار تم جلبه للإسكندرية من سايس؛ فقد كانت تلك المدينة همزة الوصل بين الوجهين القبلي والبحري عبر نهر النيل. وربما كان بقصر كليوباترا الغارق بعض الأحجار من سايس. وتم جلب تابوتها من سايس. كما كان هناك بعض الأبراج الشاهقة والمنارات في الإسكندرية، ووُجد أيضًا شبيه لها في سايس. وكانت بغرض التواصل مع المدن المصرية وإرسال إشارات ورسائل بالضوء. وتتشابه المدينتان في أنه في الإسكندرية عُبدت الإلهة ايزيس، أما في مدينة سايس فقد عُبدت الإلهة نيت. كما أن هناك العديد من التماثيل التي صُنعت في مدينة سايس، ثم ظهرت في الإسكندرية، بالإضافة إلى ذلك التشابه الذي يصل إلى التطابق بين أشكال التماثيل. وترجح الدكتورة بينلوب ويلسون أن مكان حجر رشيد الحقيقي هو قرية صالحجر الحالية، وليس مدينة رشيد؛ إذ تم نقل الحجر عبر النيل إلى رشيد حيث عُثر عليه هناك، بناءً على أن آثار صالحجر تم نقلها إلى رشيد وفوة عبر المراكب بالليل.

لقد اتخذ الملوك الصاويون من مدينة سايس القديمة عاصمة الأسرة السادسة والعشرين الصاوية في الفترة من عام 664-526 قبل الميلاد حتى صارت صالحجر تمتلك تاريخًا عظيمًا، وصار معظم المتاحف في العالم تضم آثارًا من سايس عاصمة مصر في عصر الأسرة السادسة والعشرين. غير أن الملك الصاوي المهم الذى أعطى لسايس أهميتها هو الملك بسماتيك الأول.

لقد كانت مصر في موعد مع القدر حتى يمن عليها بواحد من أفضل الملوك المحاربين ودهاة الملوك السياسيين، وأعني الملك بسماتيك الأول الذي تولى حكم مصر في فترة عصيبة في عصرها المتأخر، وقاد مصر إلى المجد والقوة والنهضة ثانية، فكانت أشبه بابتسامة مبتسرة قبل أن يتم إسدال الستار على تاريخ وحضارة مصر القديمة، وقبل أن تتحول إلى مملكة يحكمها الغرباء، وأعنى أن الإسكندر الأكبر وخلفاءه من الملوك البطالمة. وحقيقة، فمن رحم الموت، تولد الحياة، ومن هول وفجاعة الانهيار، تنبعث النهضة، ومن خضم المعاناة والفرقة والمأساة، تتحق الوحدة والأمجاد والانتصارات. وبفرض قبضة الآشوريين القوية على حكم مصر بعد هروب الكوشيين أو النوبيين إلى بلادهم الكوشية أو النوبية البعيدة، انتهت الأسرة الخامسة والعشرون الكوشية أو النوبية للأبد، وبدأت في التشكل والظهور الأسرة السادسة والعشرون الصاوية المصرية الوطنية تحت حكم الآشوريين حين قام الآشوريون بقيادة ملكهم الأشهر آشوربانيبال بتعيين نكاو أو نخاو، أو نكاو أو نخاو الأول كحاكم على مدينة سايس وابنه بسماتيك الأول كحاكم على مدينة أثريب أو أتريب بالقرب من بنها في القليوبية في الدلتا. وقام الملوك الصاويون بفرض سيطرتهم على الدلتا شيئًا فشيئًا كحكام تابعين للآشوريين. وفي عام 664 قبل الميلاد، مات نكاو أو نخاو الأول، فقام الآشوريون بتعيين ابنه بسماتيك الأول كملك على مصر ككل.  

لم يكن صعبًا على الملك العسكرى والسياسيى المحنك بسماتيك الأول أن يسيطر على الدلتا التي جاء منها، خصوصًا أن أمراء الدلتا كانوا ضعافًا وحكامها لم يكونوا يشكلون أية خطورة تُذكر عليه وتحديدًا بعد أن مهد له أبوه الحكم أثناء فترة تبعيته للحكم الآشورى، غير أن الصعوبة الحقيقية التي واجهها الملك بسماتيك الأول كانت هي كيفية سيطرته على الصعيد المصري البعيد عن الدلتا والعصى على السيطرة والاعتراف بحكمه، وتحديدًا مدينة طيبة العاصمة الدينية العريقة ومركز عبادة الرب الأكبر الإله آمون. غير أن الملك بسماتيك الأول أثبت أنه سياسى محنك ورجل دولة من طراز رفيع؛ ففي عام 656 قبل الميلاد، قام بإرسال ابنته الأميرة نيوت إقرت أو نيوتكريس إلى الجنوب، إلى طيبة عاصمة مصر الدينية الكبرى؛ كي يتم تعيينها كزوجة مستقبلية للإله آمون رب طيبة الأعظم، في معبد الإله آمون بالمدينة؛ وكي يضمن السيطرة الدينية ومن ثم السياسية على طيبة وعلى الجنوب وعلى معبد الإله آمون وكهنته المسيطرين ودولته ذات الأوقاف والإقطاعيات والهبات والمؤسسات الاقتصادية القوية والمتحكمة في الجنوب وفي مصر ككل. وكذلك كان بسماتيك الأول من الذكاء بمكان حين استخدم نبلاء الجنوب، ولم يعادِ منهم أحد، وكان من بين أهمهم، والذى استخدمه كي يدعم حكمه وحكم ابنته في الجنوب بعد قيامه بخطوة تعيينها بمعبد الإله آمون، مونتو إم حات، عمدة طيبة القوي النبيل والكاهن الرابع للإله آمون. وكان بسماتيك رجل دولة مميزًا حين لم يخلع زوجتيّ الإله آمون الحاليتين من الأسرة السابقة، أي الأسرة الخامسة والعشرين الكوشية أو النوبية والتي هرب ملوكها إلى الجنوب، وهما شبن أوبت الثانية وآمون إرديس الثانية؛ وذلك حتى لا يدخل في محظور ديني يفقد به ما أراد تحقيقه من تعيين ابنته كزوجة مستقبلية للإله بعد موتهما. وهكذا سيطر بسماتيك الأول على الدلتا أولاً، ثم على الصعيد ثانيًا من خلال تعيين ابنته في طيبة في ذلك المنصب الدينى والدنيوى المهم، وكذلك عدم معاداة البيت الكوشى الحاكم دينيًا في الجنوب أو معاداة نبلاء الجنوب الذين دعموا سيطرتهم وأيدوا سلطانه على الجنوب.

اتجه بسماتيك الأول ببصره إلى خارج الحدود بعد أن أمنّ دولته في الداخل. وحاول استعادة أمجاد ملوك مصر السابقين في الشرق الأدنى القديم، غير أنه وجد أن الأمر يحتاج إلى تكوين جيش قوى حتى يستطيع أن يحقق جولاته وصولاته وانتصاراته معيدًا مجد الإمبراطورية المصرية في الشرق الأدنى القديم والتي كانت في عصر الدولة الحديثة. فتوصل إلى فكرة بديعة وهي تكوين جيش من الجنود المرتزقة من بلاد البحر الأبيض المتوسط، فجمع عددًا كبيرًا منهم من الإغريق والكاريين وغيرهم.

حكم بسماتيك الأول مصر لمدة تزيد على النصف قرن حوالي 54 عامًا، أعاد مصر فيها إلى عصر الاستقرار والقيم الدينية الراسخة في عقيدة المصريين القدماء. وعلى الرغم من التأثر الكبير بالتأثيرات الوافدة من الخارج في الفن والتجارة، والتي لم تحدث من قبل، قام ذلك الملك ورجال عهده ومن تلاهم بالنظر إلى آثار الماضي في عصور الدول القديمة خصوصًا عصرى الدولتين القديمة والوسطى بعين الاعتبار والتقليد الحميد، والذي نعرفه بعصر الرينيسانس أو عصر النهضة الصاوية، حين قام ملوك الأسرة بتقليد فنون ونصوص الفترات السابقة ووضع لمستهم الفنية في محاولة منهم للالتصاق بمجد الماضي العظيم في مواجهة ضعف الحاضر الذي كانوا يعيشونه.

في عام 653 قبل الميلاد، استغل بسماتيك الأول انشغال ملوك آشور بأمورهم الداخلية، وانسلخ من سيطرتهم، وهم أيضًا لم يهتموا بانفصاله عنهم؛ نظرًا لشدة الصراع الداخلي على العرش لديهم، وتهديد قوة بابل الصاعدة من الجنوب لهم، فكان لبسماتيك الأول ما أراد. وكان سعيد الحظ. وأخذ لنفسه خطًا مغايرًا في السياسة الخارجية. وجعل من مصر قوة ضاربة ومهمة ومؤثرة في منطقة الشرق الأدنى القديم. غير أن غياب آشور عن المسرح السياسي للأحداث في الشرق الأدنى القديم، ترك فراغًا سياسيًا كبيرًا في المنطقة؛ فظهرت قوى أخرى مثل البابليين تحت قيادة ملكهم الشهير نابو بولاصر، وظهر كذلك الميديون، وظهر أيضًا الساسانيون. وفي الفترة من 629 إلى 627 قبل الميلاد، قام نابو بولاصر بالتحرك جنوبًا إلى جنوب فلسطين حتى دحره المصريون في أشدود على الساحل الفلسطيني. وتيقن بسماتيك الأول من الخطر الحقيقي لمصر لانهيار الآشوريين، لذا ساعدهم ضد البابليين في عام 616 قبل الميلاد، غير أنه لم تكن لديه قوات كافية كي يقضي على البابليين نصرة ومساندة منه لحلفائه الآشوريين السابقين. غير أن قوى دولية أخرى مكونة من الفرس والساسانيين قامت بمهامجة آشور في عام 612 قبل الميلاد وقامت بالقضاء على الخط المالك في البيت الآشوري.

إن بسماتيك الأول ملك مصري محارب وسياسي ورجل دولة من طراز رفيع حقق لمصر مجدها وناطح القوى الإقليمية الكبرى وجعل لمصر مكانها في عالميّ الشرق الأدنى القديم والبحر المتوسط وحقق عصر النهضة الصاوية في فترة متقلبة من تاريخ مصر القديمة، فكان نعم الفرعون الموحد لمصر العظيمة والمجدد لثقافتها والمعيد لمجدها الخالد. . ولقد قام بعدد كبير من التحولات الثقافية والسياسية مما أضفى على المدينة إضفاء الصبغة السياسية التي جعلته يختارها عاصمة لأسرته الصاوية.

لقد أعطى الملك بسماتيك الأول لمدينة سايس مجدها وعزها الذي لم يتكرر كثيرًا بعد حكم أسرته ذات النهضة الصاوية أو عصر الأسرة السادسة والعشرين الصاوية.

Egypt Air