الثلاثاء 16 ابريل 2024

شكرًا جدتي

مقالات18-1-2023 | 22:30

أخذتني لحظة تفكير إلى ماض بعيد ماض جمعني من جديد مع حكايات جدتي التي طالما أثرت بحكمتها في تكوين شخصيتي ذكرتها وترحمت عليها فما فاضت على به من تجارب علمتني من خلالها كيف أواجه دنيتي، كيف أتوقف عندما يصبح الحديث فارغًا ، متى أصمت حين ينبغي بي السكوت وعدم الدفع بنفسي وسط سجالات العامة الذين قدسوا البكاء واعتادوا الجزع والنواح أمام كل موقف يمرون به ، إن هؤلاء الذين كانوا أمام كل عثرة يتفنون في إلقاء مشاعرهم السلبية في الطرقات عسى أن تعوق مواقفهم تلك كل سبل الحصول على الأمل ستفشل محاولاتهم وسيسقطون. 

علمتني ألا أغلق النوافذ في وجه الشمس ثم أقوم بعدها بصب اللعنات على ظلام حجرتي، كانت تحكي لي عن مواقفها الصعبة التي مرت عليها وكيف عبرت كل ذلك بإيمان راسخ ووقفت في وجه العواصف وتصدت لها بشجاعة الفرسان، ولماذا الآن أتذكر تلك المواقف ؟ سأخبركم بسطوري الآتية عن سر ذلك.

كانت جدتي كالكثيرات اللاتي مرت عليهن الحرب العالمية الثانية وكان معها في ذلك الوقت أربعة أطفال صغار أحدهم كان رضيعًا كانت أيامها في ذلك الحين هى الأسوأ على الإطلاق فكلما باغتتها غارة جوية تكاد أن تقتل ماتبقى لها من أمل في هذه الحياة ، ولكنها كانت تدفع باليأس بعيدًا، تخلعه عنها وتلقي به في باطن الأرض التي تقف عليها كانت روحها مليئة بخزائن الأمل في عودة الحياة لطبيعتها ، حتى في تلك اللحظة التى دفع  خوفها الشديد أن تلجأ إلى مقبرة خالية وتصطحب معها صغارها لتبتعد بهم عن مكان القصف المتتالي، إنها الأمومة التي كانت تحركها لتقوم بدورها، فقد كان جدي يعمل في ظروف لاتمكنه من التواجد معها باستمرار.

تعود بعد الهدوء الحذر لمنزلها تحدث صغارها الذين بدت عليهم علامات الخوف بحديثها الهادئ الذي يحمل لهم بين طياته طمأنينة عظيمة حتى وإن كانت تعلم بأنها مؤقتة حتى وإن كانت تعلم أن الحرب مازالت مستمرة بداخلها ، والمعارك لازالت على أشدها، كانت تسترجع تلك الذكريات التي نقلتها إلي لتذكرني بأن الصعاب وصنوف المعاناة التي وصلت معها إلى حد عدم وجود الطعام الذي اعتادته لها ولأسرتها قد أصبح أمرًا ثابتًا ، كنت أستمع بكل مالدى من أحساس وأضع نفسي مكانها ، فكم صبرت تلك المرأة القوية ، وكم عانت دون شكوى.

كانت تحكي عن نقصان أغلب السلع حينها ، وعن مدى جشع التجار واحتكارهم البضاعة لبيعها في السوق السوداء بأعلى من سعرها، ماأشبه الليلة بالبارحة ، كنت أنتظر تلك الأيام التي نعيشها الآن بين لحظة وأخرى، فكلما ارتفعت وتقدمت مصر كلما زادت مخاوفي عليها حتى أنني كدت بعين بصيرتي أن أرى مانراه الآن، فاللعبة القديمة تم تحديثها بما يناسب عصر العولمة الحالي.

نشرالإشاعات وإثارة الفوضى والسعي الحثيث لإثبات فشل الأمة المصرية في مسيرتها بهدف النيل منها وكسر إرادتها هو الهدف الدائم لدى أعدائها ولقد تحققت إحدى بنوده بتلك الهشاشة الاجتماعية، حتى جعلته يسرى بيننا كما تسري النارفي الهشيم ، ولهذا سأوجه الشكر لمن علمتني التصدي لكل محاولات هدم الوطن حتى وإن أصبحت الوحيدة التي ترى الصورة بشكل مغاير، والآن أعدك جدتي بألا أحيد عن وصاياك لي، فمهما بدت الصورة قاتمة وبدا الواقع صعبًا سأبقى على العهد أحب وطني وأسانده في أحلك ظروفه، فالأوطان لابدائل عنها، إن تراب أرض وطني هذا لهو عندي أحب من الدنيا ومافيها. 

كلما ضحت مصر من أجل الارتقاء والصعود كلما كثرت العثرات للحد من ذلك لإرباكها ولكن هذا لا يعني أبدًا أن نستسلم مهما ارتفعت سيوفهم في وجهها وصوبت رماحهم نحو صدرها ، سنظل نقف بثبات لندافع عنها ضد جميع مخططاتهم، فاسمك يامصر، وكلمة الانتصار ستبقيان كالعادة وجهين لعملة واحدة.