قرأتُ الكثير من الأعمال الشهيرة الموسومة بنجمة الأكثر مبيعًا خلال السنوات الماضية، ومعها الكُتب البحثية والدراسية التي تتناول قضايا الأدب والنقد، لكن مع بداية السنة قررت الهروب إلى أرفف المكتبات التي تحمل فكرًا شبابيًا مختلفًا، وظفرتُ في المعرض بحوالي أربع روايات تحمل الكثير من الإبداع والفكر المختلف، ففي رأيي المتواضع أنه يجب على الناقد أن يخطو بخطوات ثابتة إلى الشباب؛ ليغوص داخل عالمهم، وليستشعر أوجاعهم، وليرى رؤيتهم للذات والعالم فأنا على كل حال واحدة منهم.
أول الروايات التي وقع عليها اختياري تندرج تحت مصنف أدب الخيال العلمي، المُدهش حقًا أن ترى الدنيا بعين مستقبلية تنتقم وتنتقد في الوقت ذاته من خلال الغوص في أعماق الضمير الذي مات كالجثة المُتعفنة التي تنهش فيها الضباع التي تغرس الأنياب في اللحم النتن.
بطل العمل يُدعى حاتم، طبيب في كلية الطب، ثائر على الفساد الذي ينخر في مجتمعه، ويمتص رحيق الأمل من قلوب الشباب المتطلعين إلى المستقبل، لكن الفساد يغتال أحلامهم الورديّة، يقرر حاتم اختراع جهاز يتلامس مع الحواس، ويخترق النفس من خلال عصب الأذن من هنا تصبح الضحية وجلادها في ثوب واحد: "كل الحواس ترى؛ السمع يرى من يتحدث إن كان جادًا أو ساخرًا، ويرى إن كان صادقًا أو كاذبًا، ويرى إن كان واثقًا أو خائفًا.. والشم يرى الريح إن كان طيبًا أو فاسدًا، ويرى العطر إن كان ذاتيًا أو ظاهرًا، ويرى الهواء إن كان صافيًا أو جامدًا.. واللمس يرى الملموس إن كان حيًا أم ساكنًا، ويرى إن كان صاخبًا أو هادئًا، ويرى إن كان حانيًا أو باردًا؛ والروح تملك كل حاسة بأمرها ونهيها، والروح ترى ما استعصى على العين رؤياه إن كانت حاضرة، والروح تحضر إن كان العقل للقلب صاغيًا، والروح تُرى إن كان صاحبها وِحدة واحدة لا خلاف بينها، والروح تظهر إن كان صاحبها مُحيرًا ومُخيرًا، والروح تأتي لمن يزهد في كل شيء من أجل شيء!" ويطرح السؤال هل من الممكن أن تصبح الضحية كالجلاد؟ ففي حقيقة الأمر لم يكن فكر الكاتب الشاب خالد عبد السلام تقليديًا أو هاشًا بلا اعتمد على الذكاء في الطرح، وعرض لجميع فصائل المجتمع الفاسدة، فهو الإنسان قبل أن يكون الطالب الملتحق بكلية الطب، عاش مع جده الذى أفنى عمره في تربيته بعدما فقد أبويه في حادثة عبارة السلام السفينة التي غرقت في غياهب ظلمات البحر، لتشهد الأمواج ونجوم السماء في تلك الليلة على حجم الفساد الذي راح ضحيته الآلاف سميت تلك القضية بـ"الموت المالح" وتارة بـ"سفينة الحجاج" قضية يقشعر لها الأبدان، تلك القصة التي عرضها الكاتب جعلتني أستعيد شريطًا مرًّا كالأيام التي مرت ولم نشعر بها!
القضية الثانية التي عرضها أظن أنها تطلبت منه البحث الكثير في أغوار النفس البشرية، حيث طبيعتها، تقلباتها، بالأحرى دناءتها وخستها أمام الشهوات والغرائز، فنحن بشر تجذبنا الشهوات، فالحب شهوة بدايتها السُكر والهيام وآخرها اللوعة التي تذهب العقل، وأيضًا حب المال شهوة، فما أكثر من يبيعون ضمائرهم أمام سطوة المال والرغبة في الحصول على قوة الهيمنة، واستلاب المركزية من الأضعف، والجنس أيضًا شهوة وما أكثر من دنسوا شرفهم واعتلوا بعضهم بعضًا تحت مسميات لا تعرف الفضيلة ولا الشرف يطلق عليها الآن الـopen minded!
أيضًا سلطت الرواية الضوء على أحلام الشباب التي راحت ضحية الوساطة والمحسوبية في حقبة من الحقب، وعرضت لصفقات الأدوية المشبوهة منتهية الصلاحية، فقد عرضت الرواية القصيرة لكل أصناف البشر، ولم تغفل حقبة من أهم حقب التاريخ حيث الإبادة العرقية لأصحاب البشرة السوداء "الأفارقة" الذين شاركوا في تأسيس أكبر المشروعات، والمؤسسات الأوروبية، حيث عملوا بوصفهم خنازير سوداء في مزارع الرجل الأبيض، فمهما اَنْدَثر التاريخ، وأُخفيت بعض الحقائق لن تمحى فكرة أن أوروبا بنيت على دماء العبيد السود، حيث عانوا من عنف واستغلال الرجل الأوروبي لأجسادهم وقوتهم في بناء "العالم الجديد" أو "أوروبا الجديدة"، أمّا عن قضية الضحية والجلاد هي الأمر الذي لا أرغب في حرقه داخل الرواية؛ لأنني ترنحت بين الانتصار للغاية التي تبرر الوسيلة، وبين الهدف الخسيس الذي يقتل الهدف النبيل للغاية "هل تدبرت يومًا ما مفهوم الضحية والجلّاد؟ هل تعلم أن الحاتم هو القاضي الذي يصدر الأحكام وينفذها بنفسه؟ الحاتم بأمره يأخذك إلى واقع الشباب العربي بين الضحيّة والجلّاد، بمزيج بين الواقع والخيال العلمي، تُدرك معه كيف تكون العاقبة، حين يتحول الجلّاد إلى ضحيّة ضحيّته، ويتحول الضحيّة إلى جلّاد جلّاده؛ يختلط الحابل بالنابل.. حسنًا نعلم أن المجتمع الجلّاد يصنع المجرم، والمجرم يجلد مجتمعه حسبما يرى – خارج نطاق المعقول – ولكن، هل للجُرمِ مبرر؟ وما عاقبة التحول من ضحيّة إلى جلّاد؟ وكيف لا يصبح الضحيّة جلّادًا؟ وكيف يُدحَر الجلّاد دونما جلده على يد ضحيّته؟ هنا نذهب مع حاتم إلى واقعه – الذي هو واقع قطاع كبير من الشباب العربي – لنحيا معه التجربة، وليسأل كلٌّ منّا نفسه: لو كنت في موقع حاتم؛ ماذا أفعل؟".
إلى جانب ذلك استطاع الكاتب بلغته السلسة، وجزالة ألفاظه، وتنوع مفرداته، واستخدام التضاد الذي يستثير عنصر الجذب ليستكمل القارئ جلسته مع كتاب "حاتم بأمره" الاسم الذي من الممكن أن تخطئ عيناك في قراءته؛ لتظن أنه "الحاكم بأمر الله" الخليفة الفاطمي السادس، والإمام الإسماعيلي السادس عشر، الذي حكم من 996 إلى 1021. ومن وجهة نظري أنه ذكاء من الكاتب في التلاعب بالكلمات، وتدل على حصيلته اللغويّة العالية؛ لأنه بالتأكيد استقى جزالتها، ورقيها بعدما اقتفى أثرها من داخل كُتُبهم، مثل: مصطفي صادق الرافعي، والمنفلوطي، ويعقوب صروف، وسعيد العريان، لا أبالغ فالكاتب اعتمد على السجع في الكتابة مما أفقد العمل الإمعان في العنصر الدرامي والتصويري داخل السرد؛ لأن على الكاتب فرض التوازن بين دراميّة اللغة والتصوير.
الأمر الأهم رغم صغر حجم الرواية التي تتراوح بين 100 صفحة إلا أنه استطاع أن يُعطي الكثير من الواقعية، وسحر الجذب للشخصيات، بالأخص شخصية حاتم التي استخدم لها ثلاث طرائق في وصف الشخصيات، لكنه وظفها بطريقة سليمة بصوت الراوي العليم الذي أحب توظيفه في السرد، فهو المُهيمن، والمسيطر على السرد، ومن النقاط التي لا يجب أن أغفلها أن الرواية غير محددة الزمان ولا المكان الأمر الذي يجعل القارئ مشاركًا في عملية التخيل؛ ليسرح بأفاقه بعيدًا يمينًا ويسارًا مع الجهاز الذي يوسوس لضمير الجلاد؛ ليقتل نفسه منتحرًا بفعل الجهاز الوسواس في العصب السمعي.
خالد عبد السلام، كاتب من مواليد 1996 تخرج في كلية الإعلام الكندية، قلم يستحق النظر إليه بعين الاعتبار، والإمعان في أفكاره والتعايش معها؛ لأنه يحمل قلمًا مميزًا، متأثرًا بالقديم، ومواكبًا للجديد، ولم يختل التوازن بين العنصرين، وتُعدُّ تلك الموازنة من الأمور الصعبة لكنها سهلة على القلم الموهوب الذي أعطاه الله نعمة الكتابة التي أقسم بها في كتابه العزيز، في نهاية المطاف إن أهم من فكرة الرواية الرسالة الإنسانية التي تُقدمها للقارئ والمجتمع والعالم، التي أظن أنها أرقى الرسائل التي يقدمها الإبداع الأدبي.