الجمعة 19 ابريل 2024

«لم تَمُت الست»

مقالات3-2-2023 | 17:13

في يوم الثالث من فبراير رحلت الست أم كلثوم بجسدها؛ تاركة أغانيها وكلماتها وألحانها وصوتها يصدح.

وعندما أقول يصدح ليس هذا بصيغة مبالغة أو تحيزًا مني لحبي لها؛  لكنه واقع يُعَد القاسم المشترك الوحيد الجامع لأذواق المصريين والعرب.

لا يخلو مقهى أو مطعم من صوتها، وإذا ما دققت السمع ستجده محيطاً بك؛ مُنبعثاً من وسائل المواصلات في القاهرة ومحافظات المحروسة.

تصادفه من المذياع؛ فتتنهد، تُبهَج روحك وترتخي أعصابك حتى لو كنت محاطًا بكم كبير من الطاقة السلبية.

لا أدري لماذا تهدأ نفسي كلما تراءى لي صوتها صدفة ربما  من سيارة مجاورة، أو وجدت نفسي مُتلبسة بدندنة مقطع لها وأنا منفردة ،أتذكر أمي وأبي رحمهما الله، أتذكر شغفهما عند الانصات لوصلاتها، دموعهما عند استزادتها في الإعادة، وطالما تساءلت علام يبكيان ؟ هل تأثراً بالكلمات أم هذا من فعل مس اللحن لروحهما؟؛ ولكنني تأكدت كونهما يبكيان طفولة وشبابًا، ويتجرعان ذكريات تمنيا دوامها.

كان أبي ينبهني لاختلاف طريقة الست في كل تكرار لها، تعيد الجملة بطريقة مختلفة؛ بل أفهمني أن الأمر تعدى سلطنة التكرار - سلطنة حنجرتها وسلطنة جمهورها؛ وتحول لاستعراض من شخصها بالقاء نفس المقطع بطريقة وتون صوتي مختلف عن السابق واللاحق؛ فتارة عتاب وتارة دلال وتارة شغف وتارة تشويق للحبيب، وتارة كبرياء.

لم تكن "أم كلثوم" شخصية قوية فقط، دؤوبة تحب عملها وتتفانى فيه، ولم تكن فقط صاحبة حنجرة احتار أطباء التشريح فيها عند فحصها ؛  حينها تفاجئوا بعدد أحبالها الصوتية، والتي كانت تُمكنها من اعتلاء الميكروفون المُتباعد لمسافة لم يقوِ عليها فنان قبلها وبعدها؛ إنما كانت الست حالة؛ حالة شعب رأي زوال الاحتلال وقيام الجمهورية من خلال صوتها، شهد العيش والحرية والعدالة الاجتماعية من خلال حنجرتها، ذاق الكرامة من خلال أغانيها، عاصرت رؤساء فكانت إحدى دعائم النظام؛ بحسٍ وطني وبغريزة الفلاحة المحبة لطين بلدها.

طالما لاذ الشعب بصوتها؛ كانت بلسم الروح لكل مجروح أو مُحِب أو مشتاق أو هاجر أو مهجور، تتساقط دموع من عاصروها عند تذكر لمة الأسرة في أول خميس من كل شهر، فيرتد دفء الحقبة لمن يذكر تفاصيل حفلاتها سواء للأحياء أو للأموات في قبورهم.

الست قالت "أنساك ياسلام، أنساك ده كلام"، و"عودت عيني على رؤياك"، و"حب إيه اللي أنت جاي تقول عليه"، و"دليلي احتار"، و" فات الميعاد"، و"جددت حبك ليه"، لا تتعجب عزيزي القارئ، إذا مررت بشوارع باريس وسمعت صوتها مُجلجلاً داخل حانات العرب، أو ينبعث لك من مطعم صغير صاحبه عربي ،تسير في شوارع عاصمة النور والثقافة فترتد لبلد منشأك من خلال صوتها ليلاً نهاراً؛ وكأنها تُذكرك بجذورك و تروي حنينك؛ فلا تملك دموعك ويتراءى لك ود منها يربطك بالأهل والخلان.

الست أيقونة بحنجرتها، بشخصيتها، بقوتها، بذكاءها، بوطنيتها، بتفانيها، لن تتكرر؛ ربما خدمتها حقبة محياها، وربما خدمتها ذائقة  الشعب المصري والعربي حينها، وربما هو نصيبها ورزقها من العاطي لتظل حية ولا تفارقنا حتى لمن لم يحيى معها، مات أبي وماتت أمي وفارقني الأعزاء والأصحاب ولم تَمُت الستْ.