كلنا عابرو سبيلٍ !!تعبيرٌ يجري على ألسنة ذوي الخبرات ، ثم يُتبعونه بنظرةٍ عميقةٍ تتجاوز المرئيات ، للدلالة على قِصَر الأعمار ، وغباء ذوي الأطماع في صراعاتهم على دنيا زائلة ، وإعراضهم عما ينالون به محبَّةَ الخالق عزَّ وجلَّ ، ولكن لم يكن ذلك قصْدي من اختيار العنوان ، إنما قصدتُ به سؤالاً لا أسطيع مغافلته لإراحة عقلي المكدود من رحلة طويلة شارفتْ على الانتهاء ألا وهو هل يمكن للإنسان أن يكون في حياته عابرَ سبيلٍ فلا يأبه بشيء ؟!!
دعوني أصارحكم ... فالكثيرون حولي يعيشون كذلك، لا يحرِّكون ساكناً رغم ما يرونه من كوارث أو جرائم تُرتكب أمام أعينهم ، لكنهم يديرون وجوههم كأنهم عميانٌ!! فمثلاً يعلم الكثيرون من موظفي إدارةٍ ما والجمهور الذي يتردد عليها يقرُّ بأن الموظف الفلاني يأخذ الرشوة ، وعندما تطالب أحد المتذمرين أن يُقدِّم شكوى .... بماذا يردُّ : وأنا مالي!!، وعندما يتهرَّب التاجر من دفْع ما قرَّرتْه اللوائح من الضرائب، حيث يرفض إصدار الفواتير بمبيعاته.!! فإذا سألتَ من اشترى : لماذا لا تطالب بفاتورتك حمايةً لحقِّك وحقِّ الدولة سيكون الردُّ المعتاد" أنا مالي" إلى غير ذلك مما نراه ونغضُّ الأبصار عنه ، وكأن" أنا مالي " تريح الضمائر ..!!.
والذي يثير استغرابك أن هؤلاء المنتمين إلى " أنا مالي " يجزمون بشرعيته، متناسين أن أساس لعنة الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان نبي الله داوود والمسيح عيسى ابن مريم سلوكياتهم المطابقة لمبدأ " أنا مالي " ولزيادة الإيضاح : أنهم لُعنوا بكل لسان لُعِنوا : على عهد موسى الكليم في التوراة، وعلى عهد نبي الله داود في الزبور، وعلى عهد المسيح عيسى ابن مريم في الإنجيل، ولُعنوا على لسان خاتم الرسل محمدٍ في القرآن الكريم صلوات الله وسلامه على جميع أنبيائه ورسله .. وبماذا استحقوا اللعن ...؟!! هكذا يجيب القرآن الكريم "كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ "
إنَّ هذا النحْتَ اللغويَّ لمصطلح ( الأنامالية )، والذي خرج من عباءة " أنا مالي " مختوماً بأضخم علامة تعجُّبٍ - أقول إن هذا المصطلح تعبيرٌ عن اللامبالاة التي نبديها أمام كلِّ وضعٍ أو تصرُّفٍ لا تقره الشرائع والقوانين ، مثل الظلم و سلْب الحقوق و الاعتداء على الممتلكات، لم يملك الشاعر العراقي ( أحمد مطر ) السيطرة على شدة غضبه من أصحاب مبدأ " أنا مالي " ، واعتبرهم ورثة إبليس في قصيدةٍ تحمل ذات الاسم ( ورثة إبليس ) حيث وصفهم " وجوهكم أقنعةٌ .. بالغة المرونة "!! ، هذي الوجوه استحقت تصفيق إبليس لامتلاكها فنونه ؛ ليعلن بعدها إبليس اعتزاله مثلما قال في ختام القصيدة " ماعاد لي دورٌ هنا ..!! دوري أنا أنتم ستلعبونهْ ..!! " وإذا كانت كلمات المبدع ( أحمد مطر ) كطلقات الرصاص في صدور اللامبالين ، إلَّا أن الشاعر الجنوب أفريقي ( أوزوالد م. متشالي ) قد تلقَّف هذا المعنى في قصيدة رائعة اسمها ( مجرَّدُ ... عابرِ سبيلٍ ...!! ).
حرفية الشاعر تبدو في حديثه عن ذاته ، وتصويرها في صورة المتخاذل ، وجعْلِها مستحقةً لكلِّ تأنيب ، وكأنه أراد عدم الصدام بأصحاب "أنا مالي"، من خلال تصويره لامبالاته بما حدث أمامه : فهو رأى اعتداءً صارخاً على أحد الجيران حيث سال دمه فماذا فعل ؟!! لم يمتعض بل توجَّه إلى مكان عبادته يزعم حبَّ الربِّ والجار المصاب ..!!، وخرج من الكنيسة يزهو بعبادته مجتازاً حلقة المتفرجين ( اتهمهم مثلما اتهم نفسه ) ، وحينما أعْلَمتْه جارته بقتْل جاره .. زعم أنه لم يسمع بذلك ..." قد كنت في الكنيسة !!" إبداع ( أوزوالد م.متشالي ) في ذلك التكثيف المُحْكَم ، والبراعة في المزج بين السرْد والحوار ، حيث أطال وصْف ما أصاب جاره من إيذاء ، ثم كانت جملتاه اللتان نطقهما مع الربِّ في مكان عبادته ، ومع الجارة محْضَ ادعاءٍ كاذبٍ ... فإلي قصيدة ( مجرد ... عابر سبيل )
رأيتُهم ينزلون عليه ضرباً بالهراوات ... وسمعتُه يصرخ من الألم كذبيحةٍ في مجزرةْ !! وشممتُ الدم الطازج ينفجر من منخريه ... ويسيل في الشارع !! ومضيتُ نحو كنيسةٍ وركعتُ في المقصورة : أيها الربُّ أنا أحبُّكَ ... لكنني أحبُّ جاري أيضاً ... آمين !! وخرجتُ وقلبي منشرحٌ خفيفٌ على وجْنةِ روحٍ قدسية.. وعدتُ للبيت مختالاً مجتازاً حشداً من المتفرجين.. ثم دخلتْ عليَّ جارتي : هل سمعْتَ ... لقد قتلوا أخاك !! : لا لم أسمع شيئاً ... قد كنتُ في الكنيسةْ !!!