الجمعة 31 مايو 2024

قصة قصيرة .. أحلام المنطقة النائية (3)

26-8-2017 | 11:14

بقلم : عمرو على بركات

الثلاثى

"أقِف في كواليس مسرحٍ قاعتُه ممتلئة بالمتفرجين.. لا أعرف دوري.. ولا يوجد ملقِّن.. أمرَني المُخرِج أن أنام في تابوت.. حَمَلني الكومبارس.. دخلتُ على خشبة المسرح.. الكومبارس يبكون.. الجمهور يصفّق وهُم يضحكون"، واستيقظتُ، كانت قد شَخصت الأبصارُ لأصحاب الانتباه، كانوا ثلاثة لواءات كما بدا من السيوف المتقاطعة بلا سببٍ على أكتافهم، أمام نسورٍ كسيحةٍ من صفيح، كان الأول أقدَمَهم لأنه جلس في منتصف المنصّة التي هي عِبارة عن ترابيزة، كان طويلاً بإفراط، وكأنه ينتمي لعماليق الفراعنة، وانخلع لتوِّه مِن فوق إحدى مصاطب معبد دندرة، وخُيِّل إلىّ أنه سيفرد أوراق البردي ليتلو منها الحركةَ مِن خلف نظارته السميكة، كان يمشى كالإوزّة، فقدْ تراجعتْ مؤخرته للخلف وهو يسحبها، وكأنها منفصلة عن بقية جسده، ربما بسبب طول جلوسه على المصطبة، بينما صدرُه كان بارزًا للأمام، وهو يحرك ذراعيه متهدلتيْن، أمّا الثاني الجالس عن يساره فكان قصيرًا نحيلاً يصعب تبيّن ملامح وجهِه من كثرة تجاعيده بسبب حركات التنقلات التي أصابته بالوهَن، فبدا كمنْ خرج مجبَرًا لتوِّه من غرفة الإنعاش لحضور اجتماعنا، وثالثهم كان بدينًا قصيرًا، بصعوبةٍ تَمَكّن من زمّ توكة القايش على خصرِه، فكان يحمل ثلاثة بطون، فضلاً عن ترهُّل ثدييه المفرط، إلا أن الثلاثة فورَ جلوسهم، خَلعوا الكابات التى فوق رؤوسهم، حتى تلألأت رؤوسهم الصلعاء على المنصة، ونجح جميع الضباط المنقولين في كبْح ضحكاتهم، إلا أن أصواتاً مكتومة تسللت خارج إرادتهم، ومال على أذُني زميلي الجالس إلى يميني، والذي لا أعرفه، وقال هامسًا: " ثلاثي أضواء المسرح"، وكتَمنا ضحكنا، إلا أن الضحك تسلل لجميع المنقولين، فنظر الثلاثة لواءات إلينا متوعدين، فلم يكن الاجتماع من أجل توزيع ضباط منقولين في حركة تنقلات عامة، فقد فَصَلنا المشهد عن واقعنا تمامًا، حتى أنا رغم أن ضرسي يؤلمني بشدة، وجيوبي الأنفية مكتومة، وأتنفّس من فمي؛ فقدْ تجلّى المعنى الحقيقي لمواجهة الدراما الإنسانية في حركة تنقلات الضباط، بتحويلها لموقف كوميدي ساخِر بناءً على رغبة المنقولين، بدون سيناريو، وبدون حبكة، أو توزيع أدوار، أو حتى توزيع الضباط في حركة تنقلات، بدأتُ أركّز نظري نحو المنصّة، حيث مستقبلي معلّق بها، كان الثلاثة مِن ذوي الشفاتير المدلدلة، ربما من كثرة اصطناع الأمل المصحوب باليأس، تتوسط جبهتَهم علاماتُ صلاة بنفس الحجم، من كثرة السجود، والدعاء بستر ربنا لهم وللمديرية، أو من كثرة خبط رؤوسهم في الحائط! كانت نظراتهم إلينا بقرفٍ ظاهر دون مبرر فهُم منقولون مثلنا إلى قِنا منذ عامٍ أو عامين على الأكثر، بل إننا تساءلنا فيما بيننا همسًا إنْ كان أحدٌ يعرفهم؟ فأنكَر الجميع! وأمسك أوسطُهم بالميكروفون وخبطَ عليه ليتأكد من صلاحيته، وقال متوعدًا بصوت أجَشّته كثرة الأوامر التي أصدرَها على مدى خدمته بعلو حسِّه: "أهلاً بكم في مديرية أمن قنا.. أنتم تعرفون الظروفَ الصعبة التي نمر بها"، وسكَتَ، ولم يفصح عن هذه الظروف، إلا أن اللواءيْن بجواره أكدا صعوبة هذه الظروف، برسم أقصى علامات العبوس في تاريخ الدراما المسرحية، وأفلام الرعب، فهزمَا "راسبوتين"، و"فرانكشتاين"، و"يوسف بك وهبى"، وبعد عبوسهم تولّيا بنظرهما إلى السقف، فبدت شفاتيرهما مدلدلة بوضوح، وفجأة وبعد أن هَمّ سيادته بمعاودة كلماته في الميكروفون، تبيَّن انقطاع الصوت، فقام سيادته بالخبط بعنف على الميكروفون، إلا أنه لم يصدر صوتًا، فهَبّ من فوره السيد العميد مدير العلاقات العامة والميكروفونات بمعاودة الخبط دون جدوى، فتوجّه لمراجعة أسلاك السماعات، وسيادته يواصل الخبط على الميكروفون بلا أمل، وصاح السيد عميد العلاقات العامة، مناديًا على "فتحى"، العسكري الكهربائي، وعلى الفور قُمنا جميعًا بالنداء على "فتحى"، قائلين: " فتحى.. يا فتحى.. فتحى يا فتحى"، حتى أننا لحّناها بإيقاعٍ فلكلوري ثابِت، ودَخلَ "فتحى" لإصلاح السماعات، وكان السيد مدير العلاقات العامة يقف بملابسه المميزة في مواجهة السيد اللواء، والذي قام سيادته بالإمساك بالميكروفون، وإلقائه بعصبيةٍ في وجه السيد العميد، فأصابه في صدره، ووقعَ الميكروفون على الأرض محدِثًا دويًا هائلاً لصوت اصطدامه صادرًا في السماعات، فأسرع السيد العميد بكل تواضع بالتقاطِه من الأرض صائحًا: " اشتغل يا فندم"، وقام بوضعه في مكانه على المنصّة مرةً أخرى، وسط تصفيق جميع المنقولين، ثم استأنف السيد اللواء حديثَه قائلاً: " دي أول مرة تلبّي فيها الوزارة رغبات الضباط في حركة التنقلات بنقلِها للضباط المتميزين للمنطقة النائية"، وعند تلك الفقرة من خطبة السيد اللواء، لم يتمكن أحد من المتميزين من كتْم ضحكاته، والتي تحولت إلى قهقة، بل قام كل اثنيْن من الضباط بخبط كفّيهما، ونسيتُ ألمَ ضرسي، وكتمة جيوبي الأنفية، بل إن اللواءيْن الجالسين على المنصّة قد تبسّما وابتسم السيد الحكمدار مضطرًا، وسمِعنا ضحكات الأمَنَاء، والصولات، والعساكر خارج القاعة، وانصرف السادة اللواءات بسلامة الله، وتركوا مدير شئون الضباط المحصور، ليلقى اسم كل مِنا وجهة عمله، وعندما نطق اسمي كنت قد وصلت إلى الباب وهو يقول: «مرور نجع حمادي».

الفنطاس

"في غياهب طرنش عميق..لا أعرف مَن رماني به.. ظلام..حائط دائري بلا مَخرج..وفجأة تدلّى خرطوم شفط يلقي ما به من فضلات .. تعلقتُ به وصعدت متعرجًا ..حتى التقطَني.. فتنفسّتُ الصعداء..وركبت السيارة مع واردها.. واتجهت إلى الشمال"، هبطتُ على الصراط من قاعة الأزمات نحو الرصيف، حيث يقف المنقولون، فعرفتُ أن الصراط المستقيم قد يكون صاعدًا أو هابطًا، ومع ذلك يظل مستقيمًا، كان علىّ أن أحدد وجهتي نحو إدارة مرور قنا، لأمارس طقوس تقديم فروض الولاء والطاعات، كان الزملاء يستوقفون سيارات رُبع نقل ذات كابود مشمّع، فهي السيارات المخصصة للنقل الجماعي، وسمِعت أصوات الزملاء تنادي:"مركز دشنا؟.. مركز فرشوط؟.. مركز الوقف؟.. إسنا؟...."، هي أسماء أماكنَ كنت أسمعها في أحاديث اللواءات أصحاب المعاشات في نوادي الشرطة، وهم يقرؤون صفحاتِ بطولاتهم في كتاب "النجوم الزاهرة في ضباط الصعيد والقاهرة"، إلا أني وجدت نفسي أصافِح عساكر التشريفة بحرارةٍ كحرارة الجو، وسألتهم عن الطريق إلى مرور قنا؟ فأجابني حامِل البوق قائلاً: "اركب حنطور يا بيه"، كنت على وشك الطلب منه عزفَ السلام الجمهوري، إلا أنه على الفور استوقف حنطورًا حِصانُه أبيض، وبه زينات معلّقة كثيرة، وسائقه شابٌ نظيف الجلباب، وما إنْ جلست في مقصورته، بعد أن رفعت حقيبتي بمعاناة، قلت له واهنًا وأنا أصارع الألم:" إدارة مرور قنا"، لم أتمكن من ممارسة متعتي في استكشاف الأماكن للوهلة الأولى، فقدْ كان ألمُ ضرسي يمتد إلى كل جسمي، لم أشاهد أي مظهر من مظاهر المرور! فلم أرَ إشارة مرور ضوئية واحدة، ولا خطوطَ عبور مشاة عرضية، ولا خطوط حارات طولية، ولا علامة مرور واحدة تمنع، أو تسمح بالانتظار، كان المظهر الوحيد للمرور هو المطبّات الصناعية المتتالية، ولم تكن أسفلتية، وإنما أسمنتية، قام فيما يبدو بصبِّها الأهالي، حسْب مواصفاتِهم الخاصة، فكانت رفيعة ومحدبة بإفراط، فرضت على السيارات وهى تتجاوزها أن تتوقف تمامًا وتنحرف يمينًا ويسارًا لتتخطاها بالجنب فتتجنب الاصطدام بها، فكانت حركة المرور في كل الطرق متعرجة، ربما كانت هذه المطبات مصممةً بالاتفاق مع وِرَش الشكمانات! وصل الحنطور إلى عمارة سكنية ضمن مجموعة مساكن شعبية، تكشف بدون لافتة عن أنها إدارة المرور، فجميع الشوارع حولها مغلَقة بسدّادات، وكل سدادة أمامها عسكري مرور بأفرولِه الكاكي، وفوقَه شريطا بلاستيك يقومان بعمل الصديري العاكس، وفى قدمِه طوزلوك، ولكنه تم تطويره بجعله أبيضَ اللون طويلا من ركبة العسكري حتى البيادة، وكل منهم ممسِك في يده بعصا سوداءَ طولها رُبع متر تقريباً لم أتبين هل هي من خشب؟ أم من كاوتش، أم من بلاستيك؟ كما تنتشر المخاريط الحمراء بكثافة أمام سلّم المبنى، وفيما يبدو أنها كانت من أجل تنظيم اتجاهات سير المواطنين أثناء دخولهم وخروجهم للإدارة، ولكنها كانت تتعلق بجلابيبهم، فتاهت في الزحام، فتحولت من مخاريط مرور إلى أقماع ملقاةٍ على الأرض، توقعتُ بخبرتي أن مكتب السيد المدير هو آخر مكتب في الصالة مكان غرفة الاستقبال حسْب التصميم الهندسي المعماري، إلا أنني وجدتها غرفة الأرشيف، فاضطررت لسؤال أحد المواطنين عن مكتب المدير، فأشار إلى أنه خلفي بجوار الباب مباشرة، فعدتُ فوجدته في غرفة النوم، والزحام شديد، نجحت في اختراقه، أجرُّ حقيبتي، كان السيد العميد يجلس على مكتب لبَني اللون إيديال معدني، وأمامه مِقعدان مقابضهما معدنية نيكل، والمقعدة والظهر جِلد بلون المكتب، ولا يجلس عليهما أحد، إلا أنى فضّلت الجلوس على المقعد الخشبي الذي عن يساره بجواره مباشرة، وبجواري حقيبتي، لم يتنبّه لي، كان الجميع يتدافعون متسابقين لوضع طلباتهم أمامَه، وهو يمسك بالقلم الأحمر "البيك"، الذي يبدو في يده بدون حبر، ولكنه بدا لي متدينًا ظاهر التدين، من حجم علامة الصلاة، وكان يضع صورتَه وهو يقبِّل يد "الشيخ الشعراوي" في مقام "سيدي عبد الرحيم القناوي" فوق رأسه، يقوم بالتوقيع على الطلب بسرعة البرق، دون أن يقرأه، مثل الولي المكشوف عنه حاجات المريدين، كانت تأشيراته كما لمحتها مبهَمة، مموَّهة، نبش فراخ، وكأنها رموز سرية بينه وبين موظفيه، لم أكن أعلم أنى سأقضي سنتين أفك شفرة هذه التأشيرات، وأنى سأكون يومًا على وشك دخول السجن بسبب فشلي في تفسيرها! كان يتحرك بإيقاع ثابِت، فهو يتناول الطلب من المواطن، يؤشِّر عليه، يعيده للمواطن، مثل حركة "شارلي شابلِن" في فيلم "عصر الآلة"، وتنبّه أخيرًا لوجودي؛ لأنه كان يريد البصق في باسكيت الزبالة الذي اكتشفتُ أنه أسفل المقعد الذي أجلِس عليه، فاضطررت للوقوف حتى يتمكن من صبّ بلغمِه في صندوق معدني مربّع، فتمكنت من رؤية وجهِه المدبب، وصلعتِه التي تحصحص شَعر رأسه عنها، فقام بالحيلة بتسريحة إلى جانب، إلا أن هواء المروحة المسلّط عليه جعل ذؤاباته تتراقص في الهواء، فقال لي:"عاوز إيه؟"، فعرّفتُه بنفسي، فقال وهو مستمِر في توقيعاته في جملة واحدة:" يا إميل، حمد لله على السلامة"، فلم أعرف هل يخاطبني أنا أم المدعو"إميل"؟ ولكن دخلَ علينا "إميل"، فأفسح له الناس الطريق، فعرفتُ فيما بعد أنه الأستاذ "إميل"، باشكاتب الإدارة، وعلى الفور أمرَه قائلاً: "شوف عربية توصل البيه نجع حمادي". لم أصافحه، وخرجتُ أسحب حقيبتي متعرجًا وسط الزحام، وركبت سيارة نقل فنطاس شفط كبيرة، تتبع مصنع الألومنيوم، متجهةً إلى نجع حمادي.

    الاكثر قراءة