الخميس 25 ابريل 2024

أنا الشيطان وأنتم الجُناة

مقالات18-2-2023 | 12:07

بادئ ذي بدء، ينبغي التنويه بأن وظيفة القراءة الأدبية النقدية هي احتواء العمل، والحرص عليه، والتداخل معه وإظهار نقاط القوة والضعف فيه، فماهية النقد لا تعني تميز جودة ورداءة العمل فحسب، فما الفائدة من قراءة عمل يفتقر للأساليب السرديَّة السليمة التي تؤثر في العملية المعرفية التي يجتذبها المُتلقي، حيث الانتشاء بالعمل والارتقاء به ومعه، فالمقصد أن هناك الكثير من الأقلام المختلفة التي تتطلَّب النظر إليها بعين الاعتبار، والتعايش داخل أدغال أدمغة أصحابها؛ للوصول إلى نتائج جيدة ومعايير جمالية. إلى جانب ذلك فقد نوَّهت في مقالة سابقة تحت عنوان "الحاتم بأمره.. رواية تغتال الضحية والجلاد"، فقد كان هدفي مع بداية السنة الهروب إلى أرفف المكتبات التي تحمل فكرًا شبابيًا مختلفًا، وظفرتُ في المعرض بحوالي أربع روايات تحمل الكثير من الإبداع والفكر المختلف، ففي رأيي المتواضع أنه يجب على الناقد أن يخطو خطوات ثابتة إلى الشباب؛ ليغوص داخل عالمهم، وليستشعر أوجاعهم، وليرى رؤيتهم للذات والعالم، فأنا على كُلِّ حال واحدة منهم، يُعدُّ ذلك هــدفًا مصاحبًا لي ولدربي خلال الأشهر القادمة، حيث تسليط الضوء على الإبداع المُوارَب بل الموازي للأعمال التي تحمل نجمة الأكثر مبيعًا. يُعدُّ العمل الجديد الذي تناولت الغوص في أغواره عملًا لكاتب شاب اسمه "مايكل يوسف" صدر له أكثر من ثلاثة أعمال (السوار)، و(التركة)، و(يومًا ما في أغسطس) – لكن – أكثر الأعمال التى تحمل فكرًا فلسفيًا رغم أنني أراها موجهة للنشء؛ وذلك يرجع لبعض العناصر السرديّة التي كان يستوجب على الكاتب الوقوف عليها، ففي حقيقة الأمر أننا نحتاج لأقلام ناضجة تغذي العقل ووجدان القراء؛ لتؤثر في المجتمع وتتأثر بِمَا يحمله العمل من عناصر فلسفية تجعل القارئ يفكر، ويبحث عن كمية المعلومات والبحث المُرفقة داخل الرواية التي تحمل الإشارة لضمير المتكلم "أنا" العمل الصادر عن دار الزيات للنشر والتوزيع، وهذا ما وجدته في العمل المُختار، فأنا أرى أن لفظة الضمير تحمل الكثير من الغموض، والأسئلة الاستفهامية، من المتحدث؟ أهو الكاتب؟ أم أنه ضمير الراوي؟ أم أنه صوت المُغتر الغرور؟! وخلال تلك النقطة تكمن جودة العمل الذي جعل الفصَّ الدماغي الأيسر في رأسي يُكثر من الأسئلة ويستفهم ليعرف. الرواية عبارة عن مقدمة، وبداية، وعشرة فصول تتميز بفلسفة اختيار العناوين، وهي كالتالي: "الموت حرقًا، العهر الملكي، الغرور السوفيتي، سقوط العظماء، القتلة، الموت الأحمر، قبلة يهوذا، نصف إله، المجد للفوهرر، كنيسة الشيطان، قبل الأخير البدايات، النهاية" يمكن للقارئ أن يتخيل من مغزى العناوين المختزلة التي تحمل مجهودًا في القراءة والبحث للوصول للمعلومة ما تحمله الصفحات داخل الرواية. ونرجع إلى عنوان الرواية "أنا" فمن خلال التركيز على اللفظة التي اختارها "مايكل يوسف" تعيدنا إلى دور المُبدع ودراسة شخصيته التي أشار إليها سيجموند فرويد خلال الكشوف السيكولوجية التي قدَّمها في مدارس التحليل النفسي، ونرتكز هنا على "الأنا" التي تختص بدراسة (منطقة الوعي)، وهي (الأنا/الأنا العليا) فالأولى تتمثل في إشباع الغرائز، والأخرى (الأنا العليا) التي تتمثل في دور الرقيب على تصرفات (الأنا) لكن العمل هنا يرتكز على (الأنا) التي تتحدث عن الغرور المتلبِّس عقلَ وضميرَ الإنسان، تعبر عن الغرائز بل هي الشهوات والغريزة ذاتها، فالكاتب أراد أن ينطق القارئ بعقله قبل لسانه جملة القول: (أنا الشيطان)، و(الأنا) المُنفذة هي الضمير الميِّت داخل الإنسان، وهي نقطة يُثاب عليها الكاتب؛ لأنها جعلتنا نفكر في عنوان العمل قبل الشروع فيه بل أثناء القراءة يستطيع القارئ سماع صوت الراوي العليم: " ضحك الشيطان، وتحدث أخيرًا.. - عجبت لكم أيُّها البشر، لا تجيدون إلا فن الحديث فقط.. عن أي ضعف تتحدث؟! أنا المخلوق من النار.. أنا المخلوق منذ البداية وحتى النهاية.. أنا الذي رأيْت السماوات بمن يسكن فيها.. أنا الذي رأيْت الأرض وما تحتها.. أنا الذي حاربت ملايين أو مليارات البشر، وأنا المنتصر دائمًا.. أم أنتم المخلوقون من طين، آنية من الفخار سهلة التحطم؟ أنتم الجهلاء.. لا علم لكم إلا ما علمكم به الله؟ أنتم الفانون؟ لأول مرة من بداية اللقاء.. ضحك وحيد، ضحكة مجلجلة، ونظر للشيطان، وقال.. - ها أنت تثبت ما أقول.. أنت لا تستطيع أن تتسبب في قتل بعوضة إلا بإذن الله.. وحتى إن أذن الله لك.. لا تستطيع.. ما أنت إلا بوقٌ للوساوس.. أنت فقط توسوس.. ولكن ليس عندك القدرة للفعل..". أمَّا عن البداية، تُصوِّر دخول الشيطان للحانة ليجلس بجوار "وحيد" الطبيب الذي فقد أسرته في حريق بالمستشفى، يبدأ من هنا يقص عليه تاريخه الشيطاني الذي وسوس فيه لأشهر الشخصيات؛ فأحدث أبشع الجرائم في حق البشرية بفعل وسوسته الشريرة "الموت حرقًا" يدور الفصل حول ترجمة الإنجيل على يد ويليام تندال والحركة الإصلاحية التي قام بها حيث ترجمته للإنجليزية، فقد لعب ويليام تيندال دورًا مركزيًا في حركة الإصلاح الديني بإنجلترا حيث استغل الملك هنري الثامن نسخ ترجمته للعهد الجديد لبدء سياسته ليسيطر مع الكنيسة الكاثوليكية، بمعنى أصح محاولة تسييس الدين ليخدم إمبراطورية هنري الثامن. فضلا عن ذلك، كانت ترجمة تيندال المرجع الرئيسي لنسخة الملك جيمس لسنة 1611 ميلاديًا من الكتاب المقدس والتي اعتُمِدت من قبل لكنيسة إنجلترا. يأتي السؤال: لماذا تلبَّس الشيطان ضمير هنري؟ أثارت ترجمة الكتاب المقدس للإنجليزية غضب السلطات البابوية التي توعدت بالانتقام من ويليام تيندال، فالترجمة ساهمت في انتشار الإنجيل ليصل لكل العالم، وفي حدود العام 1535، ألقت سلطات الإمبراطورية الرومانية المقدسة القبض على المصلح الديني الإنجليزي "ويليام تيندال" عقب خيانة تعرض لها من طرف أحد تلاميذه الذين تعلموا على يده، هنا تلبسه الشيطان المغرور فكانت البداية، مكث ويليام تيندال لأكثر من سنة بقلعة فيلفوورد خارج بروكسل وتعرَّض لأبشع أنواع التعذيب، وتمت إدانته بالهرطقة، وبعدها في محاكمة علانية تم إعدام ويليام تيندال يوم 6 تشرين الأول/أكتوبر 1536 أمام الملأ حيث تكفّل الجلادون بخنقه قبل حرق جثته أمام عامة الشعب ليصبح ما تبقى منه رمادًا منثورًا. أمَّا الفصل الثاني "العهر الملكي" استطاع أن يجسد شخصية نيرون وأوكتافيا وساحة الإعدام، وكيف تسلَّل الشيطان داخل روح إحدى الجواري "بوبيه" لتوسوس لسيدها نيرون، فالملك نيرون واحدٌ من أكثر الشخصيات التاريخية التي ارتكبت الجرائم والقتل والخيانة، فهو سيئ السمعة عبر التاريخ، ففي فترة حكمه قتل والدته، وزوجته الأولى أوكتافيا، وقتل زوجته الثانية بوبيه، وإضافة إلى ذلك يدعي الكتاب القدماء أن نِيرون هو من أشعل حريق روما الكبير عام 64 ميلاديًا؛ لكي يعيد بناء مركز المدينة الجديد؛ لتكن مركزًا تحت سيطرته، ففي النهاية الشيطان لم يسيطر إلا على روح الأرواح الشريرة، لكنه لم يحد من انتشار المسيحية، فلم تفلح الحرائق التي أقامها إلا في انتشار المسيحية؛ لتصبح روما رمزًا من رموز انتشار المسيحية للعالم. وتتوالى الأحداث "الغرور السوفيتي" ويعرض الكاتب بطريقة سلِسة ومُمتعة المخطط النووي، وصولًا إلى حادثة تشرنوبل التي أحدثت كوارث بشرية دمرت العالم، وأزهقت العديد من الأرواح البريئة، هنا لم يكن العلم خادمًا للبشرية على قدر الأذى الذي ألحقه بها "... وبحادثة تشرنوبل؛ ساعدت على وقف غزو منتجات أوروبا للعالم، وجعلت دولًا كثيرة تنتج ما تحتاج خوفًا من الإشعاع الذي طال كل ما يصدر". الفصل الرابع "سقوط العظماء" من أكثر الفصول التي نالت إعجابي، وأثارت شغفي لاهتمامي بغزو العراق لدولة الكويت، وتسليح الجيش العراقي وصولًا للحرب والغزو الأمريكي، يصف "مايكل يوسف" شرارة البداية التي هزمت دولة عظيمة مثل دولة العراق، ويعرض للحركات الجسدية التي اتسم بها الرئيس الراحل "صدام حسين" ومكالمته التليفونية مع جورج بوش، يعرض كيف تجسَّد الشيطان في روح الدول العظمى؛ لتلحق بهم وصمة عار ضمن أخطائهم المهولة على حائط إنجازاتهم الدمويَّة، ويعطي ومضة عن غزو العراق للكويت، ففي النهاية نحن وطن عربي واحد "وحتى بحرب الخليج؛ ساعدت على خلق روح اتحاد بين العرب لأول مرة". أمَّا في فصل "القتلة" يتناول عرب 48 وحادثة دير ياسين، وما فعله الشيطان من تشتيت وخيانة العهد والأمان وصولًا إلى القتل الدامي الذي وقع على العرب، لم يبرز "مايكل" الأحداث التاريخية على قدر اهتمامه بالشرارة الشيطانية التي أدَّت إلى تقسيم أراضي العرب: "اليوم هو 7 أبريل عام 1948، بعد غد تذكر يا آرييل هذا التاريخ جيدًا.. 9 أبريل 1948؛ لأنه سوف يكون تاريخًا فاصلًا، في معركتنا.. سيكون هو يوم احتلال دير ياسين..". ويعرض في فصل "الموت الأحمر" والجنرال فوروشيلوف وصديقه الذي تلبَّسه الشيطان "ستالين"؛ ليوسوس للسيطرة على الكولاك؛ ذلك ليكون الاتحاد السوفيتي هو المالك الحقيقي، ويصبح الكولاك مجرد عاملين في الأراضي الزراعية فهم مجموعة من المزارعين الذين تم استغلال أراضيهم الزراعية، فقد رفضوا الشيوعية، وهم أيضًا آخر المزارعين في العصر الإمبراطوري لروسيا الرافضة للحكم الشيوعي "واستصدار قانون السنابل عام 1932.. ذلك القانون الذي تسبب حسب الإحصائيات المبدئية في موت أكثر من عشرة ملايين من الفلاحين جوعًا أو إعدامًا..". ويسرح بخيالنا السرد حول قضية "سميرة موسى" العقل المصري المفكر التي تتلمذت على يد "مصطفى مشرفة"، يأخذنا لزمنٍ قريبٍ، والمحاولات التي تم فيها تجنيد راشيل إبراهام ليفي الممثلة المعروفة عربيا ومصريًا بــ "راقية إبراهيم"، والسبب بعدما استجابت العالمة المصرية إلى دعوة للسفر إلى أمريكا في عام 1951، أتيحت لها فرصة إجراء بحوث في معامل جامعة سان لويس بولاية ميسوري الأمريكية، تلقت عروضًا لكي تبقى في أمريكا لكنها رفضت، وقبل عودتها بأيام لأرض الوطن استجابت لدعوة زيارة معامل نووية في ضواحي كاليفورنيا، وأثناء عودتها ومعرفة خط سيرها تم تدبير مخطط قتلها من خلال قطع فرامل السيارة؛ لتنقلب وتحترق داخلها البطلة المصرية التي رفضت خيانة علمها في مقابل خدمة بلدها وبحثها العلمي. هنا في فصل "نصف إله" يأخذنا إلى عالم آخر حيث النمرود، وبرجه العاجي الذي أراد تشييده من أجل أن يدخل عالم السماوات؛ ليرى عالمها ظنًا منه أن الإله سيشاركه عرشه، فأرسل الله عليه وعلى جيشه بعوضًا فلم يستطيعوا رؤية عين الشمس، فأكل البعوض جيشه ولم يبق منهم إلا العظام والدماء التي تشهد على آثارهم، وبعوضة خرجت من السرب لتستقر في رأس النمرود. وما إلى نهاية الإبداع الجمالي في مخاطبة النشء وجميع الفئات العمرية يظهر فيما قدمه الكاتب المصري "مايكل يوسف" في عمله الروائي "أنا"، ففي حقيقة الأمر أن تناوله لجميع الفصول المطروحة تعتمد على الموضوعيَّة حتى خلال تناوله الديني، لم يعرض إلا ما يتفق مع العقل والعقيدة دون الخلل بالخيال والتصوير، وفي كل فصل سمعت فيه صوت الشيطان الراوي الذي رأيت صورته مرسومة داخل عقلي تذكرت قوله تعالى في سورة "ص": {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (80) إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(83) } شعرت أن فصل ما قبل النهاية والنهاية جسَّد الآية القرآنية بكل تفاصيلها، فالشيطان لم يكن وحده الجاني، بل من اختاره وطريقه الجاني؛ لذلك "هو الشيطان ونحن الجناة". ففي نهاية الأمر، إن قلم الكاتب يحمل فكرًا نقيًا خاليًا من الثقل والألغاز، والمعلومات المغلوطة لتحلية السرد وإن كان يعتري العمل بعض النواقص في التقنيات إلا أن الفكرة وسلاسة الأسلوب طغت على أي نظرية تحليليَّة للعمل، إضافة إلى ذلك لدي توقع أن قلمه سيصل لجميع الأعمار كما فعل "نبيل فاروق" و"مجدى صابر"؛ لم يعد هذا التوقع مبالغة مني؛ لأن الكاتب أسلوبه سهل ممتنع وبسيط ويُسهِّل على القارئ الحصول على المعلومة، في نهاية المطاف إن أهم من فكرة الرواية الرسالة الإنسانية التي تُقدمها للقارئ والمجتمع والعالم، التي أظن أنها أرقى الرسائل التي يقدمها الإبداع الأدبي.
Dr.Randa
Dr.Radwa