الثلاثاء 18 يونيو 2024

نبُوءة قصر السلطان وأيام الحنين

مقالات4-3-2023 | 12:40

 

قرأتُ مقولة أثناء مرحلتي الجامعية في كلية الآداب قسم اللغة العربية لم أنسها أبدًا، تحديدًا عندما كنتُ بالفرقة الثانية، وظلت عالقة في ذهني لفترةٍ طويلة، فكلما مرت عليَّ المواقف الجميلة ككُل شيء يمر يغفو لكن لا يهدأ ولا ينام، كالأيام التي لم ولن تعود تذكرتُها، فكلما هفَّني الشوق والحنين لمنزلي القديم في حيِّ حلمية الزيتون تذكرتُها، فتدغدغ كياني، وتُثير أيام مضت لن أستطيع إرجاعها أبدًا ما حييت، فقد كانت تقول: "الأكثر وجعًا ليس ما لم يكن يومًا لنا، بل ما امتلكناه برهةً من الزمن وسيظل ينقصنا إلى الأبد ... أحلام مستغانمي" ، تُعدُّ تلك الجملة من أقوى الجمل التي تُثير المشاعر والحنين، لتبدأ إِذن رحلتنا داخل ضفاف رواية: "نبُوءة قصر السلطان"، للكاتبة صاحبة القلم العذب والروح الحساسة: مروى جوهر، أَهداني أحدهم هذا الكتاب القيِّم، البسيط، السهل، العتيق في آن الوقت، هنا يحضرني بيت شعري كلما شرعتُ في قراءة ذلك العمل الإبداعي التاريخي سمعت همساته داخل أُذُنَيَّ للشاعر الدمشقي: نزار القباني:

"ما يفعل المشتاق يا حبيبتي في هذه الزنزانة الفردية
وبيننا الأبواب، والحراس، والأوامر العرفية
وبيننا أكثر من عشرين ألف سنةٍ ضوئية ..
ما يفعله المشتاق للحب، وللعزف على الأنامل العاجية
والقلب لا يزال في الإقامة الجبرية"

 السؤال يأتي: ما علاقة ما أذكره بالعمل الذي قرأته؟! "نبوءة قصر السلطان" عمل يستدعي الكثير من الماضي البعيد؛ لأنه يدور في خطيين زمنيين لكُلِّ منهما طريقته:

أولًا: اللغة التي تعبر عن العصر، والذي يجب التأكيد عليه أن اللغة هي صُلب العمل، الوعاء الذي من خلاله يتم صياغة السرد، وتقديمه للقراء، وطبقًا للدراسات الإنسانية، الأسلوب لغة واللغة أسلوب تحمل تعبيرات مجازية؛ لتعبر عن ملامح تعبيرية فيها من بصمة الكاتب وروحه، حيث تقديمه لمنتجه، وإمَّا أن تأخذ اللغة بمفرادتها ومعانيها القارئ للعالم الموازي الذي يعيشه، وخلال قراءة العمل استخرجت الكثير من العناصر التوليدية لأسلوب الكاتبة، التي أظهرت من خلاله قدرتها على صنع خطيِّ الزمن، كأنك تقرأ عملين مختلفين منفصلين تماما، لكليهما حقبتان، وشخصيات تنفصل عن  الزمن الثاني الذي يعود لماضٍ سحيق، هذا الأسلوب يعد جسد العمل طريقة صعبة تميز بها أسلوب "مروى جوهر"، وظهرت براعتها اللغوية حيث توظيف ملامح اللغة لكل عصر دون تكرار إيقاعي للرتم اللغوي لأي زمن.

ثانيًا: القصة الزمنية الأولى: بالنسبة ليِّ ذلك لاندماجي معها أكثر من الزمن الثاني الذي عاصرته "أزمة الكورونا"، استهلت العمل بفترة تاريخية معينة؛ حيث "المماليك والسلطان قماري"، أو بالأحرى الملك الناصر حسن بن الناصر محمد بن قلاوون سنة 735هـ/1334 م، أو الذي يلقب بـ "قماري"، "ليلة الثاني عشر من جمادى الآخر 762 هجريًا – 1361 ميلاديًا" في ثوب درامي أخاذ بدأت الكاتبة بخط البداية والنهاية، هي نظرة سينمائية حيّة هدفها جذب الإثارة وروح التشويق لاستكمال العمل والبداية، هنا تجسد الندم على ما فات ومضى، على الثقة فيمن لا يستحقون رغم أن الخيانة الحقيقية عندما نأتمن الأمين لا الخائن؛ لأن الخائن خائن، وتلك الفترة سميتها فترة الدسائس والمكائد، فمن خلال دور الراوي العليم في الفترة الأولى، يمكننا فهم ما حدثنا به "قماري": "رُبما وثقت أكثر مما يجب، رُبما تلاشت الذكريات وبهتت في رأسي، فأسلمت نفسي لهم بعد كل ما جرى.. لا أحد يتعلم الدرس ..، لكنني أتساءل: هل هذا جزاء المعلم؟! لا فائدة، أسير إلى مصيري المحتوم بخطواتٍ ثابتة، دون أن أحيد عن الطريق المرسوم أحاول أن أسجل ما لاقيته لأكثر من ثلاثين عامًا، خلال سنوات عُمري التي عشتها على هذه الأرض.."، تلك الفترة التي مرت بها الكثير من الأحداث، وظهور الشخصيات الهامة، مثل: "مِسكة"، و"طولوبية"، تظهر هنا موروفولوجية الشخصيات التي تبث فيها الروح والحيوية، فتتداخل مع "قماري"، وتحاول أن تحمي حكمه من الغدر الذي من الممكن أن يجعل الكثير ينقلب عليه، ثم بعد ذلك يأتي "الطاعون"، الوباء الذي يشبه الكورونا، فيشترك الزمن الأول مع الخط الزمني الثاني داخل الرواية؛ حيث "الأول من يناير 2020 ميلاديًا – 1441 هجريًا"، وتفاعل الشخصيات "حكيم – راوٍ عليم"، ووريث شرعي لجده "قماري"، الذي جاءه في حركة فانتازيا في بيت الأجداد بحيِّ الجمالية، والإشارة التي رغبتها الكاتبة من بيت الجدة مدلولٌ تاريخيٌ يتكئ على مجموعة تاريخية معلوماتية فيها إسقاط رمزي على الوقت الحالي الذي نعيشه، وتلك لافته معرفية وعلمية تحسب للكاتبة. أضف إلى ذلك دور "لقاء" الزوجة التي أبهرتني في ظهورها المعارض المتمرد دائما على أحلام "حكيم"، و"زيزو" الذي أحب "منى" لكنه لا يرغبها؛ عازفًا عنها خوفا من الزواج، فنرى هنا التاريخ يدور في حركة دوران تاريخي متشابك خيط السرد معه، فنرى "الكورونا والطاعون" خطين متوازيين داخل البناء السردي، فإضافة إلى الطاعون نجد الزلزال الذي أسقط العديد من الأرواح؛ حيث ضرب الطاعون مصر، لتصبح الفئران سيدة الشوارع؛ حيث جاءت عن طريق شحنة بضائع استقرت على ميناء الإسكندرية، التاريخ يدور في حركة كونية ثابتة لكنها متغيرة، بدأ المرض في التفشي بين الناس أثناء الكورونا عام 2020، السنة التي فقد فيها كلُّ إنسانٍ عزيزًا على قلبه، أيضًا فقدت مصر نصف سكانها زمن الطاعون، كأنني هربت من زمن الكورونا لزمن سحيق لأشاهد ما اندثر في كتب التاريخ، لكن هكذا الإنسان في غفلة دائمة عما مضى، في هذا الزمن شُلَّت الحركة في الصعيد البعيد، ومع تفشي المرض، شحَّت مياه نهر النيل وقلَّ خيره، ومات الزرع على الأغصان، وهلكت البراعم والدواب، وامتلأت البيمارستانات في مصر، فلم يعد في قدرتها استيعاب أعداد أكثر من المرضى، ومع علامات ظهور المرض بدأت العدوى، ومعها زادت أعداد الفئران، ولم يكن في مقدار ديوان مصر إلا الإعلان عن عدد الضحايا، نفسه الحال وقت الكورونا؛ حيث حظر التجوال وما حدث، فقد استطاعت الكاتبة وصف حال الناس بعد الموت "وكدست الجثث فوق بعضها في الشوارع، لا تجد من يدفنها بعد أن مات القائمون على غُسل الموتى، ومات حافرو القبور، الجنازة تمر بمشيعيها، فلا يرجعون إلا وقد مات أغلبهم" .

إضافة للنقاط السابقة التي استقيناها من داخل الملحمة البديعة لرواية: "نبوءة قصر السلطان"، هناك نقطة تُحسب للكاتبة خلال تلك الفترة الزمنية من التاريخ، حيث تجارة العبيد والجواري، ووجودهم في بلاط الحكم، وتوفير الأسواق لبيعهم، وإن كانت الرواية تخص الرقيق الأبيض لا الأسود، لكنها أظهرت مدى تأثيرهم في قرارات الحاكم والإيقاع به، وقد ذُكر في كتاب: "وفيات الأعيان" أن الإفراط فيما يسميه العرب بالأَطيب" النكاح والطعام" أدى  إلى اعتلال أمزجة الحكام وموتهم في سن مبكرة، فإلى جانب ذلك يعد هذا من مظاهر الفساد والترف، فقد مات أكثرهم في الصبا وريعان الشباب،  وقليل منهم من تجاوز الخمسين من العمر..، وكان لاعتلال أمزجتهم أثر في سياسة الدولة؛ مما أدى إلى زيادة الجواري والغلمان، وذلك في جميع الفترات التي حكمت مصر وغيرها. هذا ما كان من أثر الرقيق في حياة الطبقة الخاصة، أما ما كان من أثره في حياة الطبقة العامة، فقد أدى كثرة الجواري ورخص أسعارهن إلى مفاسد أصابت اﻟﻤﺠتمع والأسرة؛ منها: إقبال الشباب على شرائهن والتسري بهن، فكسد بذلك الزواج من الحرائر ..."، بل إن مع زيادة الجواري نشبت الخلافات السياسية والوشاية بما يفكر به الحاكم، فبدأ ذلك مع بداية قصة السلطان؛ حيث كان الملك الناصر حسن بن الناصر محمد بن قلاوون سنة 735هـ/1334 م، وسمي أولاً "قماري"، ولما ولي ملك على مصر اختار اسم "حسن" فعرف به. وقد نصِّب سلطانًا على عرش مصر سنة 748هـ/1347م، وعمره ثلاث عشرة سنة، ولصغر سنه ناب عنه في إدارة شؤون الدولة الأمير: "بيبغا روس"، وأنعم على الأمير: "منجك اليوسفي"، وعينه في الوزارة، وقد استطاعت الكاتبة تفكيك تلك الحقبة، ومطَّها دون ملل على الورق؛ ليغوص القارئ داخل هذا الزمن الممتع، وعندما أثبت القضاة أنه بلغ سن الرشد، تولى الحكم، وقبض على الأميرين: "بيبغا روس، ومنجك"، اللذين كان في يديهما أمور الحكم بسبب تحكمهما في السلطة، وفي سنة 755هـ/1354م أعيد الملك الناصر حسن إلى ملك مصر بعدما قبض على مقاليد الحكم أخيه الملك الصالح بعدما أطاح بالأمراء، وفي تلك الفترة ازداد التنافس بين الأمراء الترك والمماليك، فترك السلطان مقاليد السلطنة إلى الأمير: "شيخون العمري"، وبعد مقتله على يد مملوك استولى الأمير: "صرغتمش الناصري" على شئون الدولة، واستبد وطمع في السلطنة، فاتفق السلطان حسن مع جماعة من الأمراء على التخلص منه، فقبضوا عليه، وهزموا مماليكه التي ورثها من بعده بجانب أمواله الأمير: "يلبغا الخاصكي العمري"، الذي أقره السلطان على إمرة مجلس، وأخذ يشتري عدداً كبيراً من المماليك؛ مما أثار مخاوف السلطان، فاتبع سياسة جديدة اعتمد فيها على أولاد الناس، فاشتدت الفتنة بين السلطان والأمير: "يلبغا"، فحاول السلطان الفتك به فلم يوفق، فهاجمه "يلبغا" في القلعة، فهرب السلطان، ثم قبض عليه ومن معه في المطرية سنة 762هـ/1361م وهو في طريقه قاصداً الشام، وكان هذا آخر العهد به، وقيل أنه خنق وألقي في البحر ولم يعرف له قبر.

وقد وظفت الكاتبة ذلك من خلال شخصية "يلبغا العمري"، العبد الذي اشتراه "قماري" من سوق العبيد، لكنه مع الوقت تآمر عليه مع جاريته التي أحبها من كل قلبه، رغم كل ما قدمه لها من حب وإخلاص، ففي زنزانته يتذكر ما جرى له: "رأيت هذه الدنيا فارغة من كل شيء، وبدأت أتذكر أشياء صنعت "قماري" الطفل البريء، و"السلطان حسن" الإنسان الذي حاول كثيرًا، وأحب وخُدع: صراخي عند رحيل أبي، واضطرابي لرحيل إخوتي واحدًا تلو الآخر، ووحدتي عند رحيل "مسكة"، أول مرة رأيت فيها "طولوبية"، ووداعي لها نادمًا، نبوءة "مسكة"، إنذار الدرويش باقتراب الغدر، و"زبيدة" التي أُغرمت بها وآمنت لها، أول مرة أرى فيها "يلبغا" عند دكة الرقيق وإكرامي له وغدره بي! ما يؤلمني الآن أنني أعلم أن "يلبغا" لن يكرمني في نومتي الأخيرة، مثلما فعلت أنا مع "صرغمتش"، هذا المملوك إذا تمكن من قتلي لن يدفن جثتي في ضريحي الذي اخترته"، أمّا عن بيت الأجداد بعيدًا عن الذكريات التي أخذت "حكيم" إلى عالم يحمل عبق الحنين ورحيقه، مقارنة بالحب الذي يموت بالبطء بسبب فتور الأيام، فكلما زاد القرب كلما بعدت المسافات والعكس، ليكون الملاذ بيت الجدة وسريرها الذي يبث مدد البركة. اختزلت الكاتبة بقلمها المؤلم الذي يشبه سوط الحنين الذي يجلد الكيان لتصحو أيام الشوق: "ذهبت الأجساد وبقيت أرواحها منازلها".

 في النهاية، إن قلم الكاتبة سلس العبارات، استقى معلوماته من مصادر تاريخية موثوق فيها، مثل: "بدائع الزهور في وقائع الدهور" لابن إياس، و"الخطط المقريزية" لتقي الدين أحمد بن علي المقريزي، و"مساجد مصر وأولياؤها الصالحون" للدكتورة: سعاد ماهر، و"تجليات مصرية" للروائي: جمال الغيطاني، لم تكتم مصادرها، ولم تبخل بمعلومة على القارئ، إضافة إلى أن أسلوبها يتميز بعدم التكلف أو الصعوبة، فقد كانت رحلتي داخل كتابها رحلة ممتعة، تحمل قدرًا كافيًا من الاستمتاع والافتقاد بعد الانتهاء. في نهاية المطاف، إن أهم من فكرة الرواية هي الرسالة الإنسانية التي تُقدمها للقارئ والمجتمع والعالم، التي أظن أنها أرقى الرسائل التي يقدمها الإبداع الأدبي.