الأربعاء 29 مايو 2024

7 أيام في جنة الأرمن

جانب من الرحلة

تحقيقات4-3-2023 | 13:25

أحمد الزغبي

يوم وداع أرمينيا الجميلة بعد ٧ أيام فقط كيوم وداع حبيبة امتلكت الروح من النظرة الأولى؛ فلقد استطعت مُبكراً تذوق فيض من الطاقة الودودة الدافئة المَمزوجة بأجواء البلاد ذات البُرودة المُنعشة، لكن للأسف لم أكن أملك من الوقت سوى أسبوعا واحدا أدركت في نهاية الرحلة أنه مرّ كالبرق في تأمُل تفاصيل المكان والناس والتاريخ.

بعد أقل من نصف ساعة في مطار زفارتنوتس الدولي، انتهيت من كل الإجراءات وأمسيت في قلب العاصمة يريفان. قُمت بترتيب جدول مُكثف لـ٧ أيام في أرمينيا، يبدأ من صباح اليوم التالي لوصول العاصمة، والذي يوافق الإثنين ٢٠ فبراير. أربع نقاط يجب أن استكشافها خلال الأسبوع؛ الأولى هي العاصمة يريفان، والثانية مدينة جيرموك في الجنوب، والثالثة مدينة ديليجان في الشمال، وبينها سوف أمر على بحيرة سيفان. حجزت غُرفة صغيرة في وسط العاصمة. سوف أبدأ جولتي في المدينة باكرًا وأتحرك الثلاثاء مساءً إلى جيرموك التي ترتفع عن مستوى البحر بحوالي ٢٠٠٠ متر.

 

لم التزم بالخطة الزمنية فقد بدأت جولة اليوم الأول ليلة الوصول مُباشرة ولم أنتظر حتى الصباح، سأتفقد المدينة ليلًا. توجهت لتناول عشاء خفيف، اخترت خشابوري وكامبوت، والصنف الأول قريب جدًا من فطيرة الجبن، والكامبوت محلول الفواكه الطبيعية، كان له شُهرة كبيرة خصوصًا في مدن القناة المصرية فترة ما بعد الانفتاح الاقتصادي. من حُسن الحظ وجود حفلة جاز في نفس المكان لفريق من خمسة فنانين شباب موهوبين، تقودهم عازفة جيتار أرمنية، استمتعت مع الحضور بالأغنيات والمقطوعات الموسيقية وسط أجواء ساحرة لا تُنسى.

اليوم الأحد ١٩ فبراير إجازة رسمية وأجواء الاحتفال والترحيب لم تتوقف، توجهت في اليوم التالي مباشرة إلى وسط العاصمة يريفان، بعد إفطار خفيف من القمح باللبن- البليلة- وشرائح البسطرمة الأرمنية والشكشوكة وطبعا اللافاش، وصلت منطقة المُدرج العملاق كاسكيد كومبليكس ومنطقة حديقة النصر مرورًا بشارع النُصب التذكاري. المشهد بديع من أعلى المُدرج العملاق الذي صعدته كاملاً على الأقدام، لم استخدم السلالم الكهربائية برغم الارتفاع، والتي تُعتبر متحفا حديثا داخل المُدرج، رُبما استكشفها في رحلة العودة. أثناء صعود المدرج رأيت منزل الفنان الراحل تشارلز أزنافور، المطرب الأرمني الأيقونة والمُمثل والدبلوماسي وأحد أعظم مؤلفي الأغاني في كل العُصور، وأيقونة ثقافة البوب ​​في القرن العشرين؛ فقد سجل تشارلز أزنافور أكثر من ١٢٠٠ أغنية مترجمة إلى ٩ لغات، وكتب أو شارك في كتابة أكثر من ١٠٠٠ أغنية لنفسه وللآخرين. يُمكن رؤية المدينة بالكامل من النقاط العالية، ولا توجد مشكلة في إيجاد تلك النقاط، فلا توجد نقاط منخفضة في أرمينيا، البلاد بالكامل تستقر فوق أجمل مناطق جبال القوقاز، التقطت العديد من الصور  والفيديوهات. جلست للراحة وشرب القهوة في ميدان النصب التذكاري، وتأملت.

أرمينيا الجميلة، جنة الأرمن وأرض القوقاز التي تقع جنوب سلسلة جبال القوقاز الكبرى، وتواجه أقصى شمال غرب آسيا. تحدها من الشمال والشرق جورجيا وأذربيجان، بينما جيرانها إيران وتركيا يسكنان الجنوب الشرقي والغربي. أرض الأرمن واحدة من أقدم مراكز الحضارة في العالم التي امتدت في توهجها من الساحل الجنوبي الأوسط للبحر الأسود إلى بحر قزوين، ومن البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة أورميا في إيران الحالية. وقد تأسست جمهورية أرمينيا السوفيتية في ١٩٢٠م، حتى أعلنت أرمينيا السيادة والاستقلال عام ١٩٩١م.

لا توجد أراضٍ مُنخفضة في أرمينيا!، فذلك البلد الجبلي مخلوق من مجموعة كبيرة ومتنوعة من المناظر الطبيعية ذات الخُصوصية الجيولوجية، ويبلغ متوسط ارتفاع أراضيها ١٨٠٠ متر فوق مستوى سطح البحر. ويُشكل الأرمن جميع سُكان البلاد تقريبًا، ويتحدثون اللغة الأرمينية. رُبما تُفيد اللغة الروسية في التواصل، لكن لُغتي العربية أو اللغة الإنجليزية لم تكن كافية للاستغناء عن لُغة الإشارة أحيانًا، وفي معظم الأحيان كان استخدام برامج الترجمة الفورية على الهاتف خير وسيط للتفاهم. الديانة الرئيسية في أرمينيا هي المسيحية، وقد تحولت أرمينيا إلى المسيحية عام ٣٠٠م تقريبًا، لتُصبح أول مَملكة تتبنى الدين الجديد. لذلك يُحافظ الأرمن على تقاليد أدبية مسيحية قديمة وغنية، وينتمي المُؤمنون الأرمن اليوم بشكل رئيسي إلى الكنيسة الأرمينية الرسولية الأرثوذكسية أو الكنيسة الأرمينية الكاثوليكية.

يريفان العاصمة

أحيانًا تُنطق إيريفان، أو جيريفان. وتقع على نهر هرازدان، على بعد ٢٣ كيلومترا من الحدود التركية. ويرجع تاريخ مدينة يريفان إلى القرن السابع والثامن قبل الميلاد، مع تأسيس القلعة الأولى في المدينة قلعة (أربوني) في عام ٧٨٢ق.م على يد الملك الروماني أرجيشتي الأول في أقصى غرب سهل أرارات. وتنعم المدينة الجذابة ببيئة طبيعية بديعة محاطة بالقمم البركانية الخامدة في جبل أراجاتس وجبل أزداك من الشمال، وجبل أرارات عبر الحدود التركية إلى الجنوب. ويبلغ عدد سكانها حوالي مليون نسمة، ولها تاريخ طويل مع الغزو والاستعمار. ففي أوقات مُختلفة كانت تحت حُكم الرومان، وفي أوقات كانت تحت حكم العرب، وتارة تحت حكم المغول، وتارة أخرى الجورجيين. وفي عام ١٥٨٢م سقطت في أيدي الأتراك، ثم في أيدي الفرس عام ١٦٠٤م، وأخيرًا تحت الحُكم الروسي عام ١٨٧٢م. حتى صارت يريفان عاصمة الجمهورية الأرمنية المستقلة عام ١٩٢٠م. وتضم العاصمة مقر أبرشية أراراتيان البابوية، والتي تُعد واحدة من أقدم الأبرشيات في العالم كما أنها أكبر أبرشية للكنيسة الأرمنية الرسولية. وتعتبر يريفان المركز الثقافي الرئيسي للبلاد، حيث تضم العديد من المسارح والمتاحف والجامعة التي تأسست عام ١٩١٩م، كما تضم العديد من مؤسسات التعليم العالي والأكاديمية الأرمنية للعلوم التي تأسست عام ١٩٤٣م، وتحتوي على أرشيف ماتيناداران ومجموعة غنية من المخطوطات الأرمنية القديمة، مثل إنجيل لعازر عام ٨٨٧م.

مُدرج كاسكيد كومبليكس

يضم مُدرج كاسكيد الشلال العملاق مركز كافيسجيان للفنون المعروف جيدًا للشعب الأرميني، وخاصة أولئك الذين يعيشون في العاصمة يريفان. وقد صممه المهندس المعماري ألكسندر تامانيان، الذي أراد ربط الأجزاء الشمالية والوسطى من المدينة- المراكز السكنية والثقافية التاريخية للمدينة- بمساحة خضراء شاسعة من الشلالات والحدائق، تتدرج أسفل أحد أعلى النتوءات في المدينة، وظلت تلك الخطة منسية حتى أواخر السبعينيات عندما أعاد إحياؤها جيم توروسيان- كبير المهندسين المعماريين في يريفان- الذي تشكل مفهومه من الخطة الأصلية لتامانيان؛ فدمج أفكارًا جديدة في تصميمات درج خارجي ضخم وعمود داخلي طويل يحتوي على سلسلة من السلالم المُتحركة وشبكة مُعقدة من القاعات والساحات والحدائق الخارجية المُزينة بالعديد من أعمال فنية تُعبر عن تاريخ أرمينيا وتُراثها الثقافي، وفي الساحة الرئيسية أمام المدرج يُمكن الاستمتاع بمُشاهدة الأعمال الفنية في متحف الشارع المفتوح مثل منحوتة امرأة تدخن سيجارة وتمثال المحارب الفخم بالملابس الداخلية تصميم الفنان فرناندو بوتيرو، وإبريق الشاي الضخم تصميم الفنانة جوانا فاسكونسيلوس، وقد أعاد السيد كافيسجيان- الذي عمل مع مدينة يريفان وحكومة جمهورية أرمينيا- تنشيط الدرج في عام ٢٠٠٢، وعلى مدار سبع سنوات قام بتجديد كل جانب من جوانب النُصب التذكاري تقريبًا حتى صار مركزًا للفنون التي تحمل اسمه.

بعد رحلة الصُعود إلى قمة المُدرج تمكنت من استكمال الرحلة على الأقدام وصولاً إلى حديقة النصر التي تقع في منطقة كاناكير زيتون وهي أكثر الأماكن المُفضلة للشباب في يريفان، حيث يقف نُصب الأم أرمينيا الذي يرمز إلى استعداد الأرمن للدفاع عن وطنهم الأم. ويقع متحف الأم أرمينيا الحربي في مبنى النُصب التذكاري، وبجوار النصب يوجد قبر الجندي المجهول، وقد بدأ بناء الحديقة في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي باسم حديقة مدينة أرابكير، ثم تغير الاسم إلى حديقة النصر، إحياء لذكرى الانتصار السوفيتي على ألمانيا النازية في الجبهة الشرقية وقت الحرب العالمية الثانية.

جيرموك جبال الجنوب

في اليوم التالي استأجرت سيارة من العاصمة للتحرك إلى الجنوب في جيرموك، حيث الارتفاع إلى أعلى نقطة للتصوير واختبار مُرتفعات جيرموك الجبلية، فالمدينة موطن لمهرجان الثلوج الذي يُنظم سنويًا في فبراير. استأجرت غُرفة في مركز بلدية جيرموك في جنوب أرمينيا استعدادا للتحرك صباحا، وتشتهر المنطقة بينابيعها الحارة والمياه المعدنية المعبأة في زجاجات باسم المدينة. وتحتضن في قلبها الشلالات والبحيرات الصناعية ومسارات المشي وغابات جبلية جليدية، ويبلغ عدد سكانها حوالي ٥٠٠٠ نسمة.

ذكر المؤرخ ستيبانوس أوربيليان جيرموك لأول مرة في القرن الثالث عشر في عمله تاريخ مقاطعة سيساكان. وقد حكم أمراء سيونيك منطقة جيرموك بين القرنين العاشر والثالث عشر، عندما كانت جنوب أرمينيا جُزءًا من مملكة سيونيك. وقد استشفى أمراء سيونيك بالينابيع المعدنية في جيرموك، وقاموا ببناء العديد من البرك المليئة بها، مما جعل البلدة الصغيرة وجهة لقضاء العطلات خلال العُصور الوسطى، كما أن طريق الحرير التاريخي الشهير كان يمُر عبر منطقة جيرموك جنوب أرمينيا.

أثناء الانتقال إلى منطقة التيليفريك والتزلج على الجليد في اليوم التالي وبعد تناول وجبة الغداء المُكونة من طاجن كوارع بالسبانخ وخبز اللافاش والكامبوت. استرجعت تاريخ منطقة الجنوب إذ أصبح العديد من أراضي أرمينيا الشرقية جُزءًا من الإمبراطورية الروسية، بعد معاهدة تركمانشاي المُوقعة بين الإمبراطورية الروسية وبلاد فارس عام ١٨٢٨م، ثم أُعيد تَوطين العديد من العائلات الأرمينية لا سيما المناطق التي أصبحت فيما بعد جُزءًا من العاصمة يريفان في عام ١٨٤٠م وذلك بعد الحرب الروسية الفارسية ١٨٢٦-١٨٢٨م. وقد ظهرت أعمال الجيولوجي الروسي فوسكوبوينيكوف خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر كأول مُحادثات علمية حول جيرموك وطبيعتها الجيولوجية الخاصة، وفي ستينيات القرن التاسع عشر جُددت جميع برك جيرموك التاريخية التي بناها أمراء سيونيك الأوربيليين قديمًا.

تضُم جيرموك كهوف قديمة تعود إلى العصر البرونزي في مضيق نهر أربا شمال جيرموك، مع مجموعة من المصليات الصغيرة التي يعود تاريخها إلى العُصور الوسطى. وقد افتتح فرع جيرموك في المعرض الوطني لأرمينيا في عام ١٩٧٢م، ويضم لوحات ومنحوتات للعديد من أعمال الفنانين السوفييت الأرمن مثل هاروتيون جالينتس، ومارتيروس ساريان وآخرين، وقد قاد النحات هوفانيس مراديان تصميم وافتتاح مجموعة من المنحوتات المعروفة باسم حارة الفدائيين في جيرموك بين عامي ١٩٨٨-١٩٩٢م، وتصور المنحوتات العديد من شخصيات الفدائيين الأرمن.

ديليجان "سويسرا الصغيرة"

كان ياما كان! في الأساطير الشعبية الأرمينية القديمة أسطورة عن راعي فقير يُدعى ديلي. وقع الراعي في غرام ابنة سيده الجميلة ووقعت الابنة في غرامه، لكن والدها لم يعارضها فقط، بل أمر بقتل الراعي ديلي. وعاشت أم ديلي المكلومة أياما طويلة مُظلمة؛ فقد كانت الأم الحزينة في حالة حداد وبحث دائم عن ابنها الوحيد المفقود، بكت أم ديلي بشدة وبحثت في جميع أنحاء المنطقة وهي تصرخ وتنادي "ديلي جان!.. ديلي جان!"- ويضيف الأرمن مصطلح جان المحبب إلى اسم الصديق أو أحد أفراد العائلة- لذلك عُرفت المنطقة لاحقًا باسم ديليجان وفقًا للأسطورة الشعبية الأرمينية.

توجهت إلى ديليجان مع السائق الشاب "إدجار" وعلى طول الطريق من الجنوب إلى الشمال كانت طريقة ترحيبه اللطيفة بتشغيل الأغاني العربية أو المصرية خصوصاً الشبابية والحديثة. توقفنا لتزويد السيارة بالوقود عند بحيرة سيفان، وعلى الطريق كان التوقيت ممتاز والفرصة مثالية لالتقاط الصور والفيديوهات لأكبر بحيرة في أرمينيا وواحدة من أكبر البحيرات المُرتفعة في العالم، حيث تقع بُحيرة سيفان في الجزء المركزي لجُمهورية أرمينيا، على ارتفاع ١٩٠٠ متر فوق مستوى سطح البحر. وتبلغ مساحتها الإجمالية حوالي ٥٠٠٠ كيلومتر مربع. انتهيت من تصوير عدة مناظر للمكان ثُم تحركت مع ادجار لاستكمال الطريق إلى ديليجان، ولن أنسى اهتمامه الشديد بالبحث عن وصلة إلكترونية لأغنيته المصرية المُفضلة التي قال عنها إنها الأفضل على الإطلاق، ولن أنسى دهشتي حين أرسلها لي على الهاتف حين وجدتها أغنية مؤدي المهرجانات المصري حسن شاكوش والممثلة ياسمين رئيس بعنوان "يا حبيبتي افتحي أنا جيت".

 

وصلت مساءً سويسرا الصغيرة -ديليجان- التي تعتبر واحدة من أهم المُنتجعات في أرمينيا، وموطنًا للعديد من الفنانين والمُلحنين وصانعي الأفلام الأرمن، وتُغلف شوارعها العمارة الأرمنية التُراثية، وغالبًا ما يُشير السكان المحليين إلى المدينة باسم سويسرا الأرمنية أو سويسرا الصغيرة. وقد أُجريت في المدينة عدة مشاريع للتنقيب والبحث عن حفريات قديمة في سبعينيات القرن التاسع عشر، حيث عَثر الباحثون على العديد من العناصر القيمة التي تَعود إلى أواخر العصر البرونزي والعصر الحديدي المُبكر، وقد نقلت بعض تلك المجموعات إلى متاحف موسكو وسانت بطرسبرغ وتبليسي وباكو ومتحف ديليجان الجيولوجي، ويبلغ عدد سكان سويسرا الصغيرة ٢٠,٠٠٠ نسمة، وتعتبر المدينة الأسرع نموًا في أرمينيا.

بعد الحُصول على وجبة كباب بقري وقطع الفراخ المشوية على الفحم والملفوفة في خبز اللافاش الأرميني، والذي يشبه كثيراً العيش الفلاحي المصري والخبز الشامي، كان من المهم زيارة حديقة ديليجان الوطنية ومنطقة البُحيرات المُتجمدة صعودًا إلى الأعلى من وسط المدينة، وتُشكل حديقة ديليجان الوطنية واحدة من أربع حدائق وطنية في أرمينيا، وتبلغ مساحتها حوالي ٢٤٠ كيلومتر مربع، وتشتهر بالمناظر الطبيعية للغابات، والتنوع البيولوجي، وينابيع المياه المعدنية الطبية، والمعالم الطبيعية والثقافية، وشبكة واسعة من مسارات المشي لمسافات طويلة. وقد شيدت في ديليجان- كباقي بلاد الأرمن- الأديرة التاريخية مثل أديرة هاغارتسين وجوشافانك بين القرنين العاشر والثالث عشر، وقد تطورت مُجمعات الأديرة بسرعة وصارت منارات ثقافية وتعليمية.

 

قابلت داخل المتنزه الوطني الجليدي أسرة روسية من أربع أفراد، زوج وزوجة وطفلين، قادمون من أراضي التوتر للبحث عن السلام وسط تلك الغابات الساحرة، التي كانت في فترة القرون الوسطى منطقة الغابات المُفضلة للصيد والمُنتجع الصيفي للمُلوك في العصور الوسطى والقديمة، وقد صارت أراضي الشمال الأرميني مع دولة جورجيا المجاورة جزءًا من الإمبراطورية الروسية عام ١٨٠٠م، وازداد عدد سكان ديليجان تدريجياً، وافتتحت أول مدرسة للتعليم العام في ديليجان عام ١٨٦٨م، وتوهجت الملامح المميزة للتطور الثقافي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ونشأت العديد من الفرق المسرحية خلال تسعينيات القرن التاسع عشر، كما افتتحت أول مكتبة في المدينة في عام ١٩٠٨م.

 

قضيت يومين في سويسرا الصغيرة وصورت مجموعة من الفيديوهات والفوتوغرافيا للنهر المُتجمد والشوارع والمناظر الطبيعية وأكملت الليلة قبل الأخيرة في نُزل يملكه صديقي الجديد فلاديمير أو فلاد- كما يحب أن ينادى- وقد ورث فلاد المنزل عن جدته وقرر تحويله إلى نُزل سياحي لاستقبال عُشاق سويسرا الصغيرة، ويرغب فلاديمير في تصميم غُرف سياحية على طريقة بعض الفنادق المجاورة على صورة منازل الهوبيت من روايات وأفلام سيد الخواتم. قُمت بتجربة العزف تلك الليلة على بيانو الجدة الراحلة، استمتعت كثيراً باللعب والعزف العشوائي. سجلت المقطوعة صوت وصورة للذكرى. شعرت كأني مؤلف موسيقي من مجموعة الخمسة الكبار.

لم أنسى-حين مغادرة ديليجان- المرور بتمثال ميمينو في وسط المدينة، وهو تمثال مُميز لشخصيات الفيلم الروسي الأيقونة ميمينو، الدراما الكوميدية إنتاج عام ١٩٧٧م، للمخرج السوفيتي جورجي دانيليا، بطولة فاختانج كيكابيدزه وفرونزيك مكرتشيان. وسيناريو جورجي دانيليا، ريفاز غابريادزه وفيكتوريا توكاريفا، وموسيقى من ألحان جيا كانشيلي، والتصوير السينمائي لأناتولي بتريتسكي، وقد فاز الفيلم بالجائزة الذهبية لعام ١٩٧٧م في مهرجان موسكو السينمائي الدولي العاشر. وتدور أحداثه حول طيار الأدغال الجورجي المعروف باسم ميمينو- تعني الصقر باللغة الجورجية- في شركة طيران محلية صغيرة. لكنه بدأ يحلم بقيادة طائرات دولية كبيرة، عندما التقى زميله السابق في أكاديمية الطيران برفقة المضيفة الجميلة لاريسا، التي يرغب في إثارة إعجابها، وقد اقتنع أن طيار الأدغال ليس لديه فرصة حقيقية. لذلك يُقرر الذهاب إلى موسكو لتحقيق حلمه. ويلتقي هناك في فندق بسائق الشاحنة الأرمني روبن خاتشيكيان (فرونزيك مكرتشيان) الذي حصل على مكان في هذا الفندق عن طريق الخطأ بدلاً من شخص آخر، وتدور الأحداث في إطار العديد من المُغامرات في موسكو.

في اليوم الأخير السبت ٢٥ فبراير توجهت إلى يريفان العاصمة صباحاً، ثُم إلى مطار زفارتنوتس الدولي، وحين رحلة العودة إلى مصر كُنت المصري الوحيد في الطائرة المُتجهة من يريفان إلى شرم الشيخ، وفور دخول الطائرة الأراضي المصرية استعد الركاب بملابس تناسب الأجواء المصرية المشمسة الدافئة، وفورًا توجه الجميع إلى النوافذ لرؤية أهرامات الجيزة، والاستمتاع بمشاهدة الطبيعة الساحرة لشبه جزيرة سيناء قبل الهبوط في مطار شرم الشيخ. وصلت موطني وبيتي وأدركت أن ٧ أيام في أرمينيا لم تكن كافية إلا للحزن حين الرحيل، فوداع تلك البلاد الجميلة بعد تلك الفترة القصيرة كوداع حبيبة ملكت الروح من النظرة الأولى، لقد استطعت بدون عناء تذوق فيض من الطاقة الودودة الدافئة المختلطة بأجواء البلاد المنعشة، والحقيقة أنني للأسف لم أكن أملك من الوقت سوى أسبوع واحد مر كالبرق في تأمل تفاصيل المكان والناس وحتمًا التاريخ.