الأحد 19 مايو 2024

قاهرة محفوظ

30-8-2017 | 18:02

بقلم -أماني عبد الحميد

«منذ مولدى فى حى سيدنا الحسين وتحديدا فى يوم الاثنين ١١ ديسمبر عام ١٩١١ ميلادية، وهذا المكان يسكن فى وجدانى عندما أسير فيه أشعر بنشوة غريبة جدًا أشبه بنشوة العشاق، كنت أشعر دائمًا بالحنين إليه لدرجة الألم، والحقيقة أن الحنين لم يهدأ إلا بالكتابة عن هذا الحى حتى عندما اضطرتنا الظروف لتركه والانتقال إلى العباسية. كانت متعتى الروحية الكبرى هى أن أذهب لزيارة الحسين. وفى فترة الإجازة الصيفية أيام المدرسة والتلمذة كنت أقضى السهرة مع أصحابى فى الحسين، ونقلت عدوى الحب لهذا الحى إلى أصدقائي، فتحت أى ظرف لا بد أن تكون السهرة فى الحسين، وحتى لو ذهبنا لسماع أم كلثوم وتأخرنا إلى منتصف الليل لا نعود إلى منازلنا إلا بعد جلسة طويلة فى الفيشاوى نشرب الشاى والشيشة ونقضى وقتا فى السمر والحديث»، هكذا كتب نجيب محفوظ فى مذكراته واصفًا حى الحسين، حتى بات ظل المكان العتيق الذى يحمل روح مصر المحروسة فى وجدانه ويلازمه أينما ذهب وأيما كتب وظلت تلك الأمكنة بادية مع كل سطر أو جملة فى رواية يكتبها تحمل حضورًا جغرافيًا وفنيًا مؤثرًا، حتى كادت تفاصيل المكان الحقيقية تتوارى خلف ما يكتبه من تفاصيل كما تخيلها فى أغلب رواياته.

لعب المكان - خاصة داخل القاهرة- دومًا دور البطولة فى روايات نجيب محفوظ، يرسم جمالياتها من خلال منمنمات لفظية واستعراض لتفاصيل قد تغيب عن عين الناظرين، ويبدو أن دراسته للفلسة قد أثرت فى عمق أسلوبه وحواراته التى تمس لب الأشياء، وبعد أن كتب عن القاهرة الجديدة ١٩٤٥ اتجه إلى الحى القاهرى الشعبى العريق، إلى حى الأزهر والحسين فاتخذه مسرحا لرواياته، منهم روايتان متتاليتان هما «خان الخليلي» ١٩٤٦، و»زقاق المدق» ١٩٤٧، وكان لحسن تصويره لحياة الناس فى هذه المنطقة من القاهرة أبلغ الأثر فى شهرة تلك الأمكنة، إذ نجح فى أن ينقل إلى القارئ صورة حية لجو الحى أضحت خالدة فى ذاكرة قراء العربية، وأصبح من يقرأ له لا يستطيع الفكاك من ملامح أحياء القاهرة الحسين والجمالية والمغربلين، وغيرها من الأحياء التى رصدها بعيون محبة قبل أن تكون ناقدة، تأمل تفاصيل ملامحها فترات التحول خلال القرن الماضي، «خان الخليلي»، «بين القصرين»، «قصر الشوق»، «السكرية»، «ثرثرة فوق النيل»، «زقاق المدق»، «قشتمر» وغيرها من الأعمال الإبداعية التى أعلى فيها من شأن المكان ومنحه رؤية فلسفية ذات بعد درامى أدبى حتى باتت كل الأمكنة التى عشقها «محفوظ» رمزا من رموز مصر بعدما سجلها بشكل تفصيلى تحمل إسقاطات أدبية عميقة، فلم يكن المكان، عند نجيب محفوظ، مجرد إطار يحتضن الأحداث، الشخوص، والزمان، بل كان بمثابة بوتقة يمزج فيها رواياته بكل ما يحويه من بشر وتفاعلاتهم ومصائرهم التى تتحدد داخله وبسببه، وكأنه عنصر حى ينمو ويتحرك ويتصاعد ويتأثر ويؤثر. كما نجده باديا عن كل دهليز وسبيل وخان وعطفة ودرب وشارع وقبو وزقاق وميدان ومدرسة وبيت وجامع، وغيرها من الأمكنة التى دارت حولها وفيها حكايات محفوظ.

وفى إحدى مقالته يردد الأديب الراحل جمال الغيطانى وأحد المقربين من نجيب محفوظ قائلا: «لم أر إنسانا ارتبط بمكان نشأته الأولى مثل نجيب محفوظ، عاش فى الجمالية اثنى عشر عاما هى الأعوام الأولى من عمره ثم انتقل إلى العباسية، لكنه ظل مشدودا إلى الحوارى والأزقة إلى الحسين إلى الجمالية إلى الناس الذين عرفهم وعرفوه ثم كان المكان محورا لاّهم وأعظم أعمال الأدبية..».

ظلت رواية «زقاق المدق» تمثل رمزًا من رموز الأدب المصرى والعالمى أيضا، ولعب فيها المكان دورًا محوريًا، فالرواية جسدت حياة الناس فى حارة الصنادقية، تلك الحارة القديمة التى أسسها الخليفة الفاطمى المعز لدين الله، لكن أحداث هذه الرواية تدور خلال فترة الحرب العالمية الثانية، وبطلتها الفتاة «حميدة» كانت شاهدا على التغييرات التى طرأت على المكان، خاصة بعد مقتل خطيبها «عباس»، حيث رصد «محفوظ» حالة الانهيار الأخلاقى الذى عانى منه المجتمع خلال الأربعينيات من القرن العشرين، وكانت الحارة هى المكان الأنسب لتمثل «الوطن الأكبر» على حد تعبيره، من خلال الأحداث الدائرة والمتصاعدة داخل البيوت التى تعلوها المشربيات، قهوة كرشة، وصالون الحلو، ووكالة سليم علوان، والفرن، ودكان عم كامل بائع البسبوسة، لذا كان المكان فى الرواية التى تم ترجمتها إلى أكثر من أربع لغات ما هو إلا الرمز الذى يمثل الوطن من وجهة نظر «محفوظ»، إبان ويلات الحرب العالمية الثانية، بل عندما نقرأ النص الرسمى لحيثيات منح نجيب محفوظ جائزة نوبل فى عام ١٩٨٨ نجده يركز على أن أحداث رواياته «قد صورت البيئة الشعبية القاهرية فى العصر الحديث، وإلى هذه الروايات تنتمى زقاق المدق (١٩٤٧)، حيث يصبح الزقاق مسرحًا يجمع حشدًا متباينًا من الشخوص يشدهم الحديث عن واقعية نفسية»، ويتحول المكان إلى دلالة واعية لجغرافية الميادين والحارات، مراسم الأفراح، المناسبات الدينية عندما يهل شهر رمضان بنفحاته الإيمانية والزينات المعلقة عند مداخل الحارات والأحياء البسيطة، وحفلات الفطور التى تقام فى المساجد، كلها شكلت جزءا كبيرا من خياله الجامح الفذ، ونجد «محفوظ» يؤكد هذا فى كلماته قائلا: «إن ما يحركنى حقيقة عالم الحارة هناك البعض يقع اختيارهم على مكان واقعى أو خيالى أو فترة من التاريخ ولكن عالمى الأثير هو الحارة، أصبحت الحارة خلفية لمعظم أعمالى حتى أعيش فى المنطقة التى أحبها..»

وهو ما نجده يتكرر فى ملحمة الحرافيش حيث يكتب عن مكان وزمان غير محددين لكن وصفه له يشعر معه القارئ أنه يجوب حى الحسين أو تدور أحداثه داخل تلك البيئة الشعبية القاهرية أيضا، فهى تحكى الرواية عن عشرة أجيال متتالية تنحدر من عائلة واحدة لشخص واحد هو عاشور الناجى لك جيل حكاياته فى الحياة بكل ما فيها من ظلم وشرور، يرصد روح مقاومة الظلم وعدم الاستسلام والخنوع.

فى حين نجد رواية «خان الخليلي» التى تتحدث عن أحمد أفندى عاكف، الذى قطع مسيرته التعليمية وعمل حتى يعين عائلته بعدما تعرض والده للفصل من عمله، وتدور أحداثها داخل حى الحسين أيضا، وكذلك، الثلاثية الأكثر شهرة، «بين القصرين»، «قصر الشوق»، و»السكرية»، والتى تعتبر من أفضل الروايات فى العالم العربي، والتى تسرد تاريخ الحياة السياسية والاجتماعية فى مصر والتغيرات التى طرأت عليها من بدايات القرن العشرين وحتى الأربعينيات من خلال تاريخ أسرة قاهرية متوسطة الحال.

أما رواية اللص والكلاب، نشرت عام ١٩٦٣م، وكان بطلها سعيد مهران، الذى خرج من السجن بعد قضاء أربع سنوات بتهمة السرقة، وفى روايته «قشتمر» والتى قام بنشرها فى عام ١٩٨٨م، كتب عن حى «العباسية» الذى انتقلت إليه أسرته بعدما تركت حى الحسين ليرصد ملامح الحى الذى أصبحت الأسر المصرية المنتمية للطبقة المتوسطة تسكنه، عن خمسة رجال أصدقاء منذ الطفولة، لكل واحد منهم نموذج مختلف عن الآخر لم يجمعهم سوى العيش داخل حى العباسية.

وفى أيقونته «أولاد حارتنا» اختار مصر كمكان يرصد من خلالها ما طرأ عليها من تغيرات بعد قيام ثورة الضباط الأحرار التى حدثت فى عام ١٩٥٢ من الميلاد، كانت له وجهة نظر فى مساراتها، فقرّر العودة إلى الكتابة الروائية بعد توقف دام لخمسة أعوام، استوحاها من قصص الأنبياء ووظَّفها فى إطار إظهار لهفة الناس إلى مجتمعات تسود فيها قيم الحق، والخير، والعدالة، وتكافؤ الفرص، والمساواة، وكادت تتسبب فى أزمة إلى درجة أنه تعرض لمحاولة اغتيال نتيجة اتهامه بالكفر والإلحاد، وتم منع نشرها داخل مصر لفترة طويلة.

ويعترف «محفوظ» قائلا: «قرأت «الحرب والسلام» لتولستوى و«الجريمة والعقاب» لدستويفسكي، قرأت القصة القصيرة لتشيكوف وموباسان، فى نفس الوقت قرأت لكافكا وبروست وجويس، أحببت شكسبير، أحببت سخريته وفخامته ونشأت بينى وبينه صداقة عميقة وكأنه صديق، كذلك أحببت يوجين يونيل وإبسن وسترندربرج وعشقت موبى ديك لميلفيل، أعجبنى دوس باسوس ولم يعجبنى همنجواي، كنت فى دهشة من الضجة الكبيرة المحيطة به، أحببت من أعماله «العجوز والبحر» وجدت فولكنر معقدًا أكثر من اللازم وأعجبت بجوزيف كونراد وشولوف وحافظ الشيرازى وطاغور، وهنا تلاحظ أننى لم أتأثر بكاتب واحد بل أسهم هؤلاء كلهم فى تكوينى الأدبي، وعندما كتبت لم أكن أقع تحت تأثير أحدهم ولم تبهرنى الإنجازات التكنيكية الحديثة..».

ومن المعروف أن «محفوظ» لم يكتب بعيدا عن القاهرة إلا فيما ندر، كتب عن الإسكندرية فى روايته «ميراما» على سبيل المثال، ولم يكتب قط عن الصعيد المصرى، إلا أنه استحضر روحه فقط فى روايته «ثرثرة فوق النيل»، مسجلا أهمية النهر العظيم فى حياة مصر عبر التاريخ، ويقول عنه: «فى الأوقات التى كنت أجلس فيها بمفردى على شاطئ النيل كنت أشعر وكأن هناك علاقة حب ومودة تربطنى بالنيل، فأناجيه وأتحاور معه كأنه شخص آخر أحيانا كنت أحدق فيه ولا أشبع من النظر إليه».