بقلم – محمد يونس
يلجأ البسطاء من المسلمين لبعض الناس ممن يفرضون أنفسهم كعلماء فى مضمار الفتاوى، لكى يستبينوا ويستوضحوا أمورا التبست عليهم فى أمور دينهم، فتتفرق بهم السُبل وتُعرضُ عليهم فتاوى مختلفة وبعضها يُغلِفُها العُسر والتشدد، مما يجعل المُستفتِى فى حيرةٍ من أمره وتضيق عليه الأرضُ بما رحُبت. وغفل عن هؤلاء المتشددين أن ديننا يُسر ورسولنا -صلى الله عليه وسّلّم- بُعِث مُيسِّرًا ولم يشُقّ على أمته فى أمْرٍ من أمور دينها ودنياها.
ففى كل العبادات التى فرضها الله على المسلم والمسلمة لها من القواعد والأحكام من أركان وسُنن ومستحبات تُؤتى ومكروهات تُجتنب، ولكن هناك استثناءات وحالات تخضع لظروفٍ تجعل القواعد والأحكام بشكلها المعتاد عند الأداء من الصعوبة وأداؤها شبه محال، فيتحول الأمر من حال الأصل المعتاد إلى حال التيسير والتجاوز والتخفيف، وهذا هو جوهر الإسلام فى شرعه وأحكامه بما لايُخِلُّ بحقيقة التكليف وجوهره، وهو التقرب إلى الله والامتثال لأوامره والانتهاءُ عن نواهيه.
فنجدُ فى فريضة الصلاة، أن الإنسان الصحيح والسليم المعافى من المرض مطالبٌ أن يؤديها كما تعلم وبتحقيق أركانها وسننها ومُستحباتها قدر استطاعته، وعند وقوعٙ عُذرٍ من الأعذارِ لا تسقط عنه الفريضة، وإلزامهُ بالأداء مُستمرًا ولا إسقاط لها، ولكن الأداء هنا سيكون بالهيئة والطريقة التى تتناسب مع الحال التى عليها، حتى أن الأمر قد يصل إلى أداء الصلاة جالسًا، فإن لم يستطع فمستلقيًا على ظهره، فإن لم يستطع فمحركًا رأسه، فإن لم يستطع فبرموش عينيه، فإن لم يستطع فٙليجْرِ أحكام الصلاة على قلبهِ، فٙهل هناكٙ تيسيرٌ وتخفيفٌ أكثر من ذلك؟
وكذلك فى شعيرة الصيام والآيات فى القرآن الكريم تُتلى آناء الليل وأطرافٙ النهارِ «فمن كان منكم مريضًا أو على سفرٍ فٙعدّٙةٌ من أيّٙامٍ أُخر»، ثم يأتى بعدها الهدف والمراد مما سبق «يريد الله بكمُ اليُسرٙ ولايُريدُ بِكمُ العُسر» هذه الآيات الكريمة توضح أن التشريع الإسلامى أساسه اليُسر لا العُسر. وحفظ النّٙفس مما قد يُهلكها، حتى وإن كانت طاعة يتقرب بها إلى الله عزّٙ وجل.
وفى هذه الأيام المباركات من شهر ذى الحجة والحجيج يتأهبون لأداء ركن من أركان الإسلام وهو الحجُّ الأكبر، ومما لاشك فيه أن هذه الشعيرة من الشعائر التى تتسمُ بالمشقة والتعب، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- أوضح للحجيج فى حجة الوداع عندما سُئل يارسول الله حلقت قبل النحر، والآخر يسأل نحرتُ قبل الحلق، فكانت الإجابة افعل ولاحرج، فلم يُلزم الناس بترتيبٍ محدد، فالأمرُ فيه سعة، والتيسير والتخفيف عن الناس فى بعض النُّسك والأوامر إنما للحفاظ على حياة الإنسان، والنفس البشرية، فلا معنى للطاعة التى يتحقق منها هلاك الذات الإنسانية، فلقد شرِّعت لترقى بالإنسان ونفسهُ وخلُقهُ، وليس لهلاكه وضياعه. من المعلوم أن نسك الحج والعمرة من الأعمال التى يستحب المتابعة فيهما، فكما ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وٙسلّمٙ- فى الحديث الشريف.. عن أبى هريرة –رضى الله عنه- أنه قال، قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحجِّ والعمّرة فإنهما ينفيان الفقر كما ينفى الكيرُ خَبثٙ الحديد». صدق رسول الله.
فالحج والعمرة طاعتان نتقربُ بهما إلى الله، والأصلُ فى العبادة، أىُّ عبادة الإخلاص حتى يُرجى قبولها، إذن فالأمرُ لابد أن يكون لوجه الله تعالى خالصًا من كل ما يشوبه من علائق، شأن جميع الطاعات لابد من توفر نيةٙ الإخلاص.
فإن كان الأمر كذلك، فالأمر من الممكن أن يتعدى فريضة الحج أو نُسك العمّرة لقُرباتٍ أخرى لمن سبق له الحج والعمرة أكثر من مرة ويكررهما سنويًا، فلنبحث عن شابٍ وفتاةٍ يتعاركان مع الظروف لإتمام زواجهما ولا يستطيعان فنيسر لهما الأمر بنفقات حج النافلة. ولنبحث عن غارمٍ أو غارمةٍ ألقت بهما ظروف وشظف العيش بالسجن ونفك كربهما، يا من تعتمر سنويًا، أليس لنفقات عمراتك نصيب فى هؤلاء.
فمن أعظم درجات التيسير والتخفيف، التيسير والتخفيف عن النّاس، ولكن من الواجب التحقق والتأكد من الحالات التى ستساعدها، لأن التجارب أثبتت أن هناك أناسًا محترفين يمتهنون النصب والاحتيال والسرقة، فيصبح السجن الذى فى ظاهره العذاب رحمةً ساقها الله
دواءً وترياقًا لهم ووقايةً للناس والمجتمع من شرورهم. وكذلك هناك بابٌ من أبوابٍ القرب من الله والحصول على مرضاته، ألا وهو عيادة المرضى ورصد مبالغ لعلاجهم وتداويهم، فالمستشفيات الحكومية مكتظة بمرضى فى أمسِّ الحاجة للرعاية والعلاج.
وأختم كلامى بما حدث مع العابد الصالح سيدنا عبد الله بن المبارك العالم الربانى، وهو مصرى الهوية وله مذهبٌ فقهىٌ وكان زمانه معاصرًا للإمام مالكٍ رضى الله عنه وأرضاه، إلّا أن تلاميذهُ ضيعُوا مذهبه ولم ينشروه.
كان -رضى الله عنه- فى طريقه للحج، وأثناء سيره وجد امرأةً تبحث فى مخلفات كومٍ من القمامة عن شىء، فسألها عما تفعل فنهرتهُ، ثم استحلفها عما تبحث فأجابته بأنها تبحث عن طعامٍ يصلُحُ لأولادها الجوعى، وأنها أمراةٌ هاشمية وزوجها تركها وأولادها ونفذ الزادُ من بيتها، فما كان منه إلّا أن أناخٙ راحلتهُ وأعطاها ما عليها من زادٍ وكذلك أعطاها المال الذى معه واستئذنها فى بعض الدنانير ليعود براحلته إلى بلده مصر. وعندما عاد الحجاج لبلدهم مصر ذهب ليهنئهم ففوجئ أنهم يهنئونه بقولهم وتقبل الله منك أيضًا يا بن المبارك، فبادرهم بالقول ولكنى لم أحج هذا العام، فأجابوا باندهاش كيف ذلك، ولقد رأيناك فى المناسك كلها، فى عرفة والطواف والسعى والرمى، فغادرهم ورأى فى ليلته النبى -صلى الله عليه وسلم- فى الرؤيا محدثًا إياه يا بن المبارك لقد أكرمت ابنتنا فوٙكٙلٙ الله عنك ملكًا أدى عنك مناسك الحج.. ولا حرج على فضل الله -فسبحانه وتعالى- يختص عباده المخلصين الأتقياء بكراماتٍ وأحوالٍ قد لا يصدقها العقل المحدود، ولكنه -سبحانه وتعالى- بيده الأمر كله ولاحرج على فضل الله.
نسأل الله -عزّٙ وجلّٙ- أن يتم لحجاج بيته الحرام نُسُكهم على خيرٍ ويتقبل منهم ومنا جميعًا صالح الأعمال. إنّهُ قريبٌ مُجيبُ الدّٙعاء.