الأربعاء 15 مايو 2024

بيرم التونسي «1893 ـ 1961».. رائد شعر العامية والوطنية


أ.د. يوسف نـوفـل

مقالات9-3-2023 | 16:45

أ.د. يوسف نـوفـل

● كان الأدب الشعبي بليغا في التعبير عن قضايا الجماعة والجماهير والالتصاق بهم، منذ بذوره الأولى في تراثنا، حيث عاش هموم الفرد والمجتمع، نقدا للذات، ونقدا للمجتمع معا
● بيّن بيرم في أشعاره، وظيفة الفن الاجتماعية والوطنية، وعانى في سبيل ذلك معاناة أليمة من المستعمر ومن الاستبداد السلطوي، والاضطهاد، وتضييق الخناق عليه، ومعاقبته إلى أقصى مدى
ننظر إلى الشعر العربي الآن، ونحن على أهْبة اكتمال الربع الأول من القرن الحالي لنجد تعدد قوالب الشعر بين:
- الشعراء الملتزمين بالشعر الفصيح ذي القالب الموسيقي التراثي ذي الشطريْن، الملتزم بالوزن والقافية الموحّدة أو المتنوعة، مقتصرين عليه وحده. 
2- الشعراء الملتزمين بالشعر الجديد وحده ( شعر التفعيلة)، أوالشعراء الجامعين بين النمطين مغلّبين الجديد (التفعيلة) دوما.
 3- قصيدة النثر .
 4ـ شعـــر العاميـــّة. 
   كانت جذور اللغة العربية ضاربة في أعماق التاريخ قرونا طويلة، وتجلتْ على الألسنة بوجهيها الفصيح والعامي، وكانت العامية أكثر قربا من العامة، وقد أحسن اللغوي الدكتور أمين علي السيد فيما أصدره له مجمع اللغة العربية بعنوان (العامي الفصيح في المعجم الوسيط)، القاهرة 2005ـ 2006، حيث أرجع المفردات العامية إلى أصلها الذي وردتْ به في المعجم فصيحة، متفقا مع رأي اللغوي الكبير الدكتور شوقي ضيف في بحث ألقاه في المجمع، بعنوان العامية فصحى محرفة، ونشر بمجلته العدد 91، ص37 قال فيه:
"الكثرة الغالبة في ألفاظ العامية المصرية ألفاظ فصيحة، أو ذات أصل فصيح؛ إذْ أغلب ما فيها من أفعال، أو أسماء، أو حروف، أو حركات أصله فصيح، وعمّتْ فيه تحريفات سجلها العالم الجليل المرحوم أحمد تيمور في معجمه".
   وهناك عضو مجمع اللغة العربية، وأحد رواد الفن القصصي، وهو محمود تيمور، ابن العلامة أحمد تيمور باشا يصدر كتاب مستخرجا من كتابه (سلطان اللغة العربية)، عنوانه (كلمات الحياة العامة)، مطبعة الاستقامة، القاهرة 1956.     
  ومن هنا كان الأدب الشعبي بليغا في التعبير عن قضايا الجماعة والجماهير والالتصاق بهم، منذ بذوره الأولى في تراثنا، حيث عاش هموم الفرد والمجتمع، نقدا للذات، ونقدا للمجتمع معا، غير محتفل بالزخرفة اللفظية قدر اهتمامه بالمعنى المراد، فأخذ على عاتقه مهمة النقد والتعريض، ومجاراة المناسبات بما يناسبها من قول، وما ينحاز للوطن بما يناسبها من قول، وما ينحاز للوطن دوما. 
ومن هنا نال اهتمام متخصصين متنوعين بين آداب اللغة، والأنثروبولوجي، والاجتماع، وقام هذا الشعر بدوره في العصور جميعها جنبا إلى جنب مع الفصيح، وكانت الموشحات والأزجال العربية، تلك التي أثّرتْ في شعراء التروبادور في إسبانيا في القرن التاسع الميلادي، وقد كتب أحمد صادق الجمال الأدب العامي في مصر في العصر المملوكي، القومية، القاهرة 1966، وكتب طاهر أبو فاشا هز القحوف في قصيدة أبي شادوف، هيئة الكتاب بالقاهرة 1987، وهي قصيدة كتبها الشيخ الشربيني، وكان من القدماء من نسجوا على هذا المنوال أمثال: شرف الدين الأسدي(ت 738هـ).
   وتكفي شهادة محمد مندور في حديثه المشار إليه عن الشعر في المعركة،  ومشاركة شعر العامية والغناء كعبدالفتاح الشرقاوي، وصلاح جاهين، وعبدالفتاح مصطفى، وفؤاد حداد، ومجدي نجيب، وأمثالهم، وصولا إلى جيل شعراء الشباب، ومنهم الشاعرة نادية بسيوني، وغيرها.
وتربع على عرش الشعر العامي محمود بيرم التونسي (1893ـ1961) في مرحلة من أهم مراحل الحياة الثقافية والاجتماعية والوطنية في مصر، مزوّدا بثقافة عصره، ورصيد تراثنا، مرتبطا بالمجتمع وكفاحه ومكابداته، متعرضا للنفي والإقصاء على مدى عشرين عاما فيما بين سنوات 1920 و1938، ما بين العودة إلى وطنه الأول تونس، أو فرنسا، وهو في عنفوان شبابه وكان حصاد ذلك ديوانه أو أعماله الكاملة التي أصدرتْها هيئة الكتاب بمصر في خمسة أجزاء بإشراف رشدي صالح في عاميْ 1976، و1977، ثم أضاف يسري العزب إلى إبداعاته تلك أربعا وسبعين قصيدة، وليتنوع إبداعه بين شعر الفصحى -في صدر حياته- والعامية والمقال الصحفي والمقامات والقصص والمسرحيات والأوبريتات والتمثيليات والأغاني والطقاطيق والفوازير ورواية (السيد ومراته في باريس وفي مصر)، وذاعت قصيدته في المجلس البلدي، والسخرية من تسعيرة الحكومة نشرها سنة 1917، حيث ارتفعت الأسعار بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، وقد كتب عنه عبدالعليم القباني محمود بيرم التونسي، المؤسسة العامة للنشر، القاهرة 1969، كما كتب عنه في كتابه رواد الشعر السكندري في العصر الحديث، هيئة الكتاب القاهرة 1972 ص83ـ 85، وحصر يسري العزب أعماله في كتابه عنه أزجال بيرم التونسي، دراسة فنية، هيئة الكتاب، القاهرة1981، ص301، ونشط قلمه في الصحافة، فأنشأ في 4 من مايو 1919 مجلة "المسلة" وحققتْ نجاحا كبيرا، ثم أنشأ صحيفة "الخازوق" مفتتحا عددها الأول بمهاجمة محافظ القاهرة زوج الأميرة فوقية ابنة السلطان فؤاد، ويكتب في مجلة الفنون لصاحبها كمال الحلي، وفي جريدة الزمان بتونس، وفي "أبوللو" عند أبي شادي، وفي "الصاعقة" لمحمود رمزي نظيم، وليشارك أحمد شفيق صاحب "المطرقة" في إصدار مجلة "ياهوه" الفكاهية، ولتظهر بعض أجاله مجتمعة في عدد خاص منها في 11 من أغسطس 1941، ولتفرد جريدة "أخبار اليوم" مساحة أسبوعية لأزجاله، وكذلك"الأخبار"، و"ابن البلد"، و"المصري"، و"الجمهورية" سنة 1955، وينشر بها قصيدته المطولة (كفاح الشعب)، وتقدم الإذاعة من أعماله "ملحمة الظاهر بيبرس" التي مات قبل إتمامها.
   وقد تعرف على "أحمد زكي أبوشادي" (ت1955)، وفي مقهى كوم الدكة تعرف على الشيخ سيد درويش (ت1923)، وغنى له سيد درويش (أنا المصري كريم العنصرين)، واتصل بشعراء عصره: شوقي(ت1932)، وحافظ(ت1932)، والمازني(ت 1949)، وشكري(ت1949)، والعقاد(ت1964)، والرافعي(ت1937)، ورامي(ت1981)، وعبدالمطلب(ت1931)، وطاهر أبو فاشا، وغيرهم، وليحصل، قبيل وفاته على وسام الفنون والآداب.
    وقد نالت  العامية اهتمام الدارسين، ومنهم عبدالعزيز الأهواني (ت 13من مارس 1980)، وعبدالحميد يونس، وأحمد رشدي صالح، وأحمد مرسي، وسهير القلماوي، ونبيلة إبراهيم، وعبدالعليم القباني، وأبو بثينة، ومحمد عبدالمنعم، وأمثالهم، حتى دافع عن هذا الشعر الدكتور صلاح فضل -وكان عضو مجمع اللغة العربية. بل رئيسه- في كتابه (شعر العامية من السوق إلى المتحف) سنة 2020، مقاوما الاستعلاء النقدي الذي عانى منه هذا الفن، بمثل ما عانى من نظرية "الصفاء اللغوي"، ماضيا مع تاريخ ذلك الفن متناولا: بيرم التونسي، وأحمد فؤاد نجم، وصلاح جاهين، وعبدالرحمن الأبنودي، ومحسن الخياط في ديوانه ناي وشموع، دار الكاتب العربي، القاهرة 1968.
بيرم التونسي والشعر الوطني
   برز الدور الوطني والفني لشعر العامية في المواقف الوطنية، وفي الأزمات والقضايا السياسية الوطنية، وضد الاستعمار الإنجليزي أو الفرنسي، وقام شعر العامية بإذكاء روح الوطنية، وتأييدها، وإبراز البطولات الشعبية، وحب الوطن والدفاع عنه لدى شعراء كثيرين من شعراء العامية، يكفى أن نسوق لذلك مثلا برائد شعر العامية بيرم التونسي(1893ـ 1961) الذي بيّن في أشعاره وظيفة الفن الاجتماعية والوطنية، وعانى في سبيل ذلك معاناة أليمة من المستعمر ومن الاستبداد السلطوي، والاضطهاد، وتضييق الخناق عليه، ومعاقبته إلى أقصى مدى؛ فتم ترحيله ونفيه إلى تونس في الخامس والعشرين من أغسطس 1920، ليغادرها بعد أربعة أشهر بسبب مطاردة الشرطة إياه، فيذهب إلى مارسيليا، ليعمل عتالا، وعاملا، يضيق بالمنفى في ليون، فيزوّر جواز سفره متجها إلى مصر، متنكرا ميناء بورسعيد، وذلك يوم 27 من مارس 1922، فالقاهرة فالإسكندرية، مستجيبا لنصائح سيد درويش، ولينفى مرة ثانية إلى فرنسا، ليلتقي بالزعيم سعد زغلول، وليلتقي بعزيز عيد، وفرقته مع زوجه فاطمة رشدي، ثم يذهب إلى تونس مرة ثانية ليعمل بجريدة الزمان، وفي عام 1936 يذهب إلى سوريا ولبنان، ثم يعود إلى مصر 1938، ليشيع شعره الوطني على الألسنة، وفي الغناء، وفي الصحافة الناقدة، واتصل بذلك وساعده على الذيوع والانتشار -إلى جانب الأغنية- المجلات والصحف الناقدة الساخرة المتهكمة، ومنها: 
مجلة حمارة منيتي لمحمد توفيق، والمسلة، والخازوق لبيرم التونسي، والفنون لكمال الحلي التي أغلقتْ 1928، والزمان بتونس، والصاعقة لمحمود رمزي نظيم، والمطرقة، وياهوه لأحمد شفيق ومساعدة بيرم التونسي، إلى جانب مجلات عديدة، ومنها: مجلة التراث الشعبي، بغداد، والفنون الشعبية، القاهرة.

 هكذا عرفْنا شاعر العامية الكبير الرائد بيرم التونسي كبيرا في شعره، كبيرا في حسّه الوطني، كبيرا في انتمائه إلى الوطن والفن معا، أي إيمانه برسالة الفن السامية، وهي الانحياز إلى القيم الاجتماعية والوطنية والإنسانية، والدفاع عن الوطن، والإخلاص للفن ورسالته الجمالية السامية. 

Dr.Radwa
Egypt Air