● لفتت قصيدة "المجلس البلدى" أنظار مدير الجريدة التى نشرتها؛ فاستحسنوا نشرها، ونشرت باسمى لأنهم استحوا أن ينسبوها إلى غير صاحبها
● قام الجيش بكل ما كنتُ أنادى به من إصلاح. كما قضى على ما كنتُ أهاجمه من فساد. فالحمد لله أننى لم أمت قبل أن تتحقق آمالى
● جمال عبدالناصر كان له الفضل فى إعادة إذاعة ملحمة الظاهر بيبرس واستكمال حلقاتها، وأمر بألا تنقطع حلقاتها
كتب محمود بيرم التونسى على صورة له:
- لما وجدت حياتنا
فى هذه الدنيا قصيرة
أبقيت فيها صورتى
والمرء فى دنياه صورة
ثم يكمل:
- ولما كانت حياتى فى أيام كفاحى غير رتيبة لأكوِّن مذكرات منظمة، فإننى أشرح فى هذه المذكرات الإجمالية صورة مما كان يجب أن يكون لى من مذكرات تفصيلية.
هكذا يكتب شاعر الشعب محمود بيرم التونسى فى كتابه المهم: المذكرات الذى عثرت عليه بالصدفة وحدها عندما كنت أتجول فى سور الأزبكية بمعرض القاهرة الدولى للكتاب الماضى. والمذكرات نشرتها مؤسسة أخبار اليوم أيام أن كان رئيساً لمجلس إدارتها صديقنا وحبيبنا: المرحوم ياسر رزق، والمشرف على مطبوعاتها الروائى والأديب: عزت القمحاوى.
يبدأها بشعره:
- الأولة مصر.. قالوا تونسى ونفونى
جزاة الخير وإحسانى
والتانية تونس وفيها الأهل جحدونى
وحتى الغير ما صافانى
والتالتة باريس وفى باريس جهولنى
وأنا موليير فى زمانى
ثم يبدأ فى الفصل الأخير من قصة حياته، والذى أعطاه عنوان مذكراتى:
- ولدتُ فى حى الأنفوشى بالإسكندرية بشارع البورينى فى السيَّالة فى 23 مارس سنة 1893، ولكنى تقيدت من مواليد حى الأزاريطة فى جهة الرمل بها، وذلك لأن والدى كان متزوجاً من اثنتين تقيم إحداهما وهى أمى بالأنفوشى، والأخرى بالأزاريطة. فقيدنى أبى فى سجل المواليد أثناء إقامتى بالأزاريطة.
ثم يكمل:
- وكان لوالدى المدعو محمد أخ شقيق يُدعى محمود. أنجب أربعة من الذكور هم: حنفى، ومصطفى، وحمادة، وعبدالعزيز. وكما كنا أولاد عمومة كنا أولاد خالة. وقد تزوج خالنا من أختى لأبى. وصار كل زيتنا لدقيقنا. وصِلتُنا وِدِّية. إلا عبدالعزيز فقد كان يجنح إلى الشقاوة والمزاح القاتل.
وكان أبى وعمى -يكمل بيرم- يملكان مصنعاً لنسيج الحرير فى حى الميدان بالإسكندرية بأنوال بدائية. وقد ورث هذا المصنع عن جِدى مصطفى الذى كان مروره بالإسكندرية فى طريقه إلى تونس بعد تأدية فريضة الحج سبباً فى تفكيره فى الاستقرار بمصر. ولم تكن صناعته أصلاً نسج الحرير. ولكنه ورث هذا المصنع عن صهره.
ثم يكمل:
- وقد ألحقنى والدى بكُتَّاب فى حى زاوية خطَّاب الذى يتوسط بين حى الأنفوشى وحى الميدان. الذى كان يقع فيه مصنع والدى. فكنت أخرج من المصنع إلى الكُتَّاب أقضى فيه باقى اليوم فى الدراسة.
وكانت مبادئ القراءة والكتابة هما كل ما وصلانى فى ذلك الكُتَّاب من تعليم. ثم كان له الفضل فى ثقافتى بعد ذلك إلى نهمى فى المعرفة واستدامتى للقراءة.
لقد بدأت حياتى من الضياع. فقد انتقلت للإقامة مع أختى لأبى المتزوجة من خالى، وكانت تعُد علىَّ الحركات والأنفاس والسكنات، وتضيق ذرعاً من أى خدمة يمكن أن تؤديها لى.
ثم انتقلت من العمل فى محل زوج أمى إلى المصنع الذى ورثته وأخى عن أبى. وقد حاول أولاد عمى الذين كانوا يديرون المصنع بعد وفاة أبى تعليمى صناعة النسيج. ولكن ابن عمى الأصغر عبدالعزيز الذى كان عنده عُقدة من ضياع نصيب أبيه فى المصنع منعنى من التعليم.. وقال لى:
- انت لازم ما تتعلمش عشان تبيع لنا نصيبك ويرجع المصنع لينا.
وفعلاً تم هذا.. أختى باعت نصيبها، وبعتُ نصيبى، وصار المصنع مِلك أولاد عمى.
ثم يحكى ما مر به من آلامٍ عندما بحث عن وسيلة رزق أخرى. فافتتح محلاً للبقالة. راج رواجاً لا بأس به. ثم خطبت له أخته بنت عطَّار صاحب محل فى الميدان بالإسكندرية التى أنجبت له ولداً وبنتاً، وعاش مع صهره الذى أعفاه من مهمة أعباء البيت. وهكذا استراح فى بيته وفى عمله. وفى هذا الجو الهادئ بدأ اتجاهه نحو القراءة والأدب، حيث كان يقضى وقت فراغه فى البيت أو محل البقالة فى الاطلاع على مختلف أنواع المعرفة والعلوم.
ولكن لأن استمرار الحال من المُحال، حاول أن يحترف مهنة أهل الحى وهى الصيد، وشارك صيَّاداً فى قارب صيد يملكه. وخرج فى بعض المرات مع صيَّاد الحى لمشاهدة مهنة الصيد لأول مرة، ولكن فشل مشروع الصيد كما فشل من قبله مشروع البقالة، ومن قبلهما مشروع تعليمه فى مصنعٍ للحرير.
الأجانب كانوا مسيطرون على بلدية الإسكندرية والعوائد التى تتحصل ينصرف معظمها على الأحياء التى يسكنها هؤلاء الأجانب ولا يُنفقون أى شيء على الأحياء البلدية، وباقى العوائد يقوم الأجانب بنهبها.
ثم نصل إلى أول اهتمامه بقول القصيدة. عندما يكتب:
- وألهمتنى قريحتى بعمل قصيدة تشرح الوضع. وأرسلتها إلى إحدى جرائد الإسكندرية، فنشرتها فى صفحتها الأولى موقعاً عليها باسمى. ومن قبل كانت الجرائد التى تصلها قصائدى تنشرها تحت أسماء أخرى.
ولكن يبدو أن قصيدة "المجلس البلدى" قد لفتت أنظار مدير الجريدة التى نشرتها فاستحسنوا نشرها. لأنهم استحوا أن يُنسبوها إلى غير صاحبها. أو لعل فيها من النقد اللاذع ما جعل لصوص الأدب يخشون المسئولية فيما لو وضعوا أسماءهم عليها.
ويكمل متأملاً أحوال حياته:
- فى هذه اليوميات أو المذكرات كما يُسميها، فيكتب فى لحظة صدق نادرة:
- وهكذا وجهنا القدر إلى مهنة الأدب وسيلة للرزق. ثم دأبتُ على كتابة كُتيبات صغيرة بها مختلف الانتقادات الاجتماعية. إلى أن قامت ثورة سنة 1919 تُطالب فيها مصر بحقها فى تقرير مصيرها. فقررت أن أنزل بقلمى إلى الميدان بإصدار جريدة. ولكن رقابة المطبوعات رفضت طلبى لأنها كانت تحت سيطرة الاحتلال الإنجليزى.
وكان على رأس البلد فى ذلك الحين السلطان فؤاد أخو توفيق الذى أدخل الإنجليز إلى مصر. وبدلاً من أن يكون راعياً للبلد مسؤولاً عن رعيته، ما كان يهمه هو وعائلته سوى نهب خيرات البلد. بالمشاركة مع الاستعمار. ولا عجب أن وقفوا موقفاً سلبياً تماماً من الحركة الوطنية.
فى ذلك الوقت نشرت قصص الفضائح السلطانية فى أزجال ساخرة سميتها قصائد البامية السُلطانى، والقرع الملوكى، والباذنجان العاروسى. وكان من يسألنى عمن أقصده بهذه الفضائح كنت أرد عليه قائلاً إنها تقليد لنداء باعة الخضروات فى الإسكندرية الذين كانوا يتفننون بالنداء على بضائعهم بهذه العبارات.
ومع هذا لم تخفِ قصدى على الجميع. وأرادت الحكومة المصرية تقديمى إلى محكمة الجنايات بالتهمة الكبرى وهى: العيب والسب والقذف فى عميد العائلة السُلطانية. وإذا كانت القوانين القائمة عندئذ تحكم بالسجن الطويل على مجرد نقد السلطان. فما بالنا بما يكون الحكم فى هذه التهم وفى محاكم خاصة للسلطنة.
كان فى مصر حينئذ بلاء اسمه الامتيازات الأجنبية. ورثته من عصر الحكم التُركى عندما أعطى السُلطان سليمان القانونى -وكانت مصر منذ أيام أبيه تابعة لتركيا- الأجانب حق الاحتكام إلى محاكمهم الخاصة التى تطورت إلى محاكم مختلطة.
ويكمل:
- ودأبت كل يوم على نشر فضيحة جديدة عن فؤاد وأنصاره. واتصل بى أذنابهم واعدين بالمناصب الكبيرة والخدمات الكثيرة إذا رجعت عن طريقى. ولكنى رفضت أى شيء من متاع الدنيا على حساب ضياع استقلال البلاد واستغلال الناس.
وهكذا لم أجد أمامى سوى الهجرة إلى تونس. وهناك اعتقدوا أن التعاون معى بمثابة عمل عدائى ضد الاستعمار الذى كان قد خرج منتصراً من الحرب العالمية الأولى وتفرَّغ إلى البطش بالشعوب المغلوبة. لم يكن هناك بُد من الذهاب إلى فرنسا حتى أجد أبواب العمل مفتوحة، والجو كله حُرِيَّة. وهكذا كان.
وفى البداية لم أكن أكتب بالفرنسية. فاضطررت إلى بيع العقارات التى كنت أمتلكها بمصر. وأرسلت إلى ابنى محمد أحذره من الاشتغال بالأدب. فرد علىَّ قائلاً أنه مُتجه فى دراسته إلى المنهج العلمى. بما له من ثبات فى الثقافة الإنسانية دون إهمال نافع من الأدب البعيد عن الأوهام.
ويستكمل قصة حياته مخاطباً ابنه:
- ولم تخلُ حياتى من مرح الفن، فلم تكن قاصرة على السياسة والمشاكل الاجتماعية ونقدها ومحاولات إصلاحها. فقد ألَّفتُ فى مصر رواية شهرزاد للشيخ سيد درويش، وكان ذلك بعد عودتى إلى مصر. وإن كان سيد درويش قد توفى فى مقتبل شبابه بعد أن اعتصر حياته فى تحويل الموسيقى المصرية من أنَّاتٍ إلى نغمات تُعبِّر عن أحاسيس الناس وانفعالاتها.
وقابلت فى غربتى فى باريس من أهل الفن عزيز عيد، وألَّفتُ له روايتى: ليلة من ألف ليلة. وروايتى: عقيلة. ولم ألتفت فى معاملته إلى الناحية المالية. لأننى أردتُ أن تظل ذكراى حيَّة فى مصر. وكنتُ قد يئستُ من كل منفعة من أهل الأدب. فأضفت إليهم أهل الفن.
وفى غربته يُقابل سعد زغلول باشا الذى مر بباريس فى طريقه إلى لندن لإجراء مفاوضات مع الإنجليز بأمل الوصول إلى اتفاقٍ يكفل استقلال مصر. يكتب عن لقائه عن سعد زغلول:
- قابلته وشرحت له جهادى فى سبيل مبادئ الوفد. فذكر لى بألفاظٍ مقتضبة أنه يعلم قصتى ويعلم قصائدى الرنَّانة فى مدحه. ثم سكت بعد ذلك فرجوته أن يساعدنى فى العودة إلى مصر.
وبعد سعد زغلول ها هو يُقابل مصطفى النحَّاس، خليفة سعد الذى مر بباريس فى طريقه إلى لندن لتوقيع معاهدة 1936 التى سمَّاها: معاهدة الشرف والاستقلال. فاتصلت به وأفهمته قصتى فوعدنى خيراً. وطلب منى الحضور إلى السفارة المصرية فى ميعادٍ حدده للتوصية فى حضورى على عودتى إلى مصر.
لا أريد الاستطراد فيما قاله عن نفسه عندما مدح فاروق بقصيدة. ولكنى أحب الوصول إلى ثورة يوليو عندم يكتب عنها:
- ولم تلبث أن قامت ثورة 23 يوليو 1952، ولم تكن بنتيجتها فقط تحرر مصر وجميع الأقطار العربية -والعُقبة لفلسطين إن شاء الله- بل أيضاً ومعظم البلاد الشرقية التى كانت رازحة تحت الاستعمار. وقام الجيش بكل ما كنتُ أنادى به من إصلاح. كما قضى على ما كنتُ أهاجمه من فساد. فالحمد لله أننى لم أمت قبل أن تتحقق آمالى.
ويصل إلى تأليفه لملحمة الظاهر بيبرس. وهنا نصل إلى ذكر جمال عبدالناصر فى هذه المذكرات المهمة: والذى كان له الفضل فى إعادة إذاعتها واستكمال حلقاتها هو الرئيس جمال عبدالناصر الذى أمر بألا تنقطع حلقاتها.
عسى الله أن يمتد بىَّ الأجل حتى أقوم باستكمال هذه الرواية.. وهكذا تنتهى حياتى مكافحاً كما بدأت مكافحاً.
وكان آخر ما كتبه فى هذه المذكرات المهمة قوله:
- إننى لا أنتوى أن أقوم بعدها بأى عمل إلى أن أُلاقى رباً كريماً، والحمد لله الذى وفقنى إلى ما وفقنى إليه.
ولا ينسى تدوين المكان الذى دوَّن فيه هذه الكلمات المهمة ولا التاريخ.. ويكتب:
- حلوان فى أول يناير 1961.