في مثل هذا اليوم 13 من شهر مارس لعام 1941 رزقت فلسطين بأهم شعرائها في العصر الحديث، الذين مثلوا الدرع ورأس الحربة للمقاومة في زجه الإحتلال الغاشم، ولد الشاعر محمود درويش في قرية "البروة" ثم هُجر منها رغما عنه رفقة أسرته عقب حرب 1948.
وقد روى الشاعر الراحل لحظة هروبه وأسرته من نيران الإحتلال وقت ان كان في عمر الست سنوات حيث قال: "أذكر أننى عندما كان عمرى ست سنوات، كنت أقيم فى قرية جميلة وهادئة، هى قرية "البِروة" الواقعة على هضبة خضراء ينبسط أمامها سهل عكا، وكنت ابنا لأسرة متوسطة الحال عاشت على الزراعة، عندما بلغت السابعة توقفت ألعاب الطفولة، وأنى أذكر كيف حدث ذلك، أذكر ذلك تماما: فى إحدى ليالى الصيف التى اعتاد فيها القرويون أن يناموا على سطوح المنازل، أيقظتنى أمى من نومى فجأة، فوجدت نفسى مع مئات من سكان القرية أعدو فى غابة، كان الرصاص يتطاير فوق رءوسنا ولم أفهم شيئا مما يجري، بعد ليلة من التشرد والهروب وصلت مع أحد أقاربى الضائعين فى كل الجهات إلى قرية غريبة ذات أطفال آخرين، تساءلت بسذاجة أين أنا؟ وسمعت للمرة الأولى كلمة: لبنان".
ويواصل درويش فى سرد وقائع ليلة تهجيره من وطنه خلال الحوار الذى أجرى فى عام ١٩٦٩ "يخيل إلى أن تلك الليلة وضعت حدا لطفولتى بمنتهى العنف، فالطفولة الخالية من المتاعب انتهت، وأحسست فجأة أننى أنتمى إلى الكبار، توقفت مطالبى وفرضت على المتاعب، منذ تلك الأيام التى عشت فيها فى لبنان لم أنس ولن أنسى إلى الأبد تعرفى على كلمة الوطن، فلأول مرة وبدون استعداد سابق كنت أقف فى طابور طويل، لأحصل على الغذاء الذى توزعه وكالة الغوث، كانت الوجبة الرئيسية هى الجبنة الصفراء، وهنا استمتعت لأول مرة لكلمات جديدة فتحت أمامى نافذة أمام عالم جديد: الوطن، الحرب، الأخبار، اللاجئون، الجيش، الحدود، وبواسطة هذه الكلمات بدأت أدرس وأفهم وأتعرف على عالم جديد على وضع جديد، حرمنى طفولتي".
بدأ محمود درويش نضاله السياسي ضدّ الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين في سن مبكرة، عندما كان طالباً في المرحلة الثانوية، وذلك ضمن الحزب الشيوعي الإسرائيلي "راكاح"، والحزب الشيوعي الإسرائيلي يعتبر امتداداً للحزب الشيوعي الفلسطيني، الذي تأسّس في الثلاثينيات من القرن الماضي.
لم يمرّ نشاطه السياسي من دون أن يدفع سلطات الاحتلال إلى مراقبته ومضايقته، فقد تمّ اعتقاله مراتٍ عدّة بين عامَي 1961 و1967.
في مدينة حيفا سُجن للمرة الأولى عام 1961، وقد وصف تلك التجربة بـ"الحب الأول" في حياته، حين قال عنها: "إنّ السجن الأول مثل الحب لا يُنسى"، وفقاً لما جاء في ديوانه الأول "عصافير بلا أجنحة".
المرة الثانية التي سُجن فيها درويش كانت في العام 1965، بعد سفره إلى القدس عن طريق حيفا من دون تصريح، حين كان العرب مُطالبين باستحصال تصريحٍ خاص في حال أرادوا التنقل من مدينةٍ إلى أخرى. ويُقال إنه كتب قصيدة "أحنّ إلى خبز أمي" داخل السجن بعدما زارته والدته.
ولقد وصل محمود درويش إلى القاهرة في فبراير 1971، وكان قد كتب قصيدة في رثاء عبد الناصر بعنوان "الرجل ذو الظل الأخضر"، ثم عينه محمد عروق مدير إذاعة صوت العرب، مستشارا ثقافيا بالإذاعة، ولم يلبث درويش أن أعلن عن انضمامه لهيئة تحرير مجلة "المصور"، لكن التغيرات السياسية التي حدثت في تلك الفترة، وتحديدا "ثورة التصحيح" في مايو 1971، أطاحت بعروق وفايق من مناصبهم، إلا أن محمد حسنين هيكل، وكان يشغل وقتها رئيس مجلس إدارة الأهرام، قام بتعيين درويش هناك ما بين مركز الدراسات الفلسطينية والقسم الأدبي.
ونشر درويش في تلك الفترة مجموعة من أجمل قصائده.. لعل أشهرها "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا" المنشورة في مجموعته "أحبك أو لا أحبك" عام 1972، وهي قصيدة بطلها الشاب المقدسي المهاجر، سرحان بشارة سرحان، المتهم بقتل السيناتور الأمريكي روبرت كينيدي، الشقيق الأصغر لجون كينيدي عام 1968.
قال درويش عن فترة تواجده في مصر "إن الدخول إلى القاهرة كان من أهم الأحداث في حياتي الشخصية، في القاهرة ترسخ قرار خروجي من فلسطين وعدم عودتي إليها، ولم يكن هذا القرار سهلا. كنت أصحو من النوم وكأنني غير متأكد من مكان وجودي. أفتح الشباك وعندما أرى النيل أتأكد من أنني في القاهرة.. وجدتُ نفسي أسكن النصوص الأدبية التي كنت أقرؤها وأعجب بها، فأنا أحد أبناء الثقافة المصرية تقريبًا والأدب المصري، التقيتُ بهؤلاء الكتّاب الذين كنتُ من قرائهم وكنت أعدّهم من آبائي الروحيين"، وسرعان ما توطدت صداقة درويش مع محفوظ وإدريس، وكان يُنظر إليه باعتباره شاعر المقاومة، وكان من أهم أعماله فيها قصيدة "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا" التي نُشرت في الأهرام، وصدرت في كتاب "أحبك أو لا أحبك".
وفى الثمانينيات انتقل للعيش فى باريس، وانضم لمنظمة التحرير الفلسطينية، إلا أنه استقال اعتراضا على توقيع اتفاقية أوسلو وعاد بعد ذلك إلى رام الله.
في العام 1981 أسّس مجلة "الكرمل" الأدبية، وبقي رئيساً لتحريرها إلى غاية توقفها نهائياً عن الإصدار سنة 2006. بعد عامٍ من تأسيسها، اضطرّ درويش إلى توقيف إصدار المجلة بشكلٍ مؤقت، بسبب الغزو الإسرائيلي للبنان وحصار مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في بيروت. وقد خلّد المقاومة الفلسطينية لذلك الحصار من خلال قصيدته الشهيرة "بيروت"، التي نشرها في العام نفسه.
وبعد نهاية الحصار، غادر نحو مدينة نيقوسيا القبرصية، حيث أعاد إصدار مجلة "الكرمل" سنة 1983 إلى غاية 1993، للتوقف من جديد وتُعاود الصدور من مقرّها الجديد في مدينة رام الله الفلسطينية عام 1996 ولغاية إقفالها النهائي في 2006.
خلال كل تلك الفترة، بقي محمود درويش منفياً عن بلده، ومتنقلاً بين عواصم عربية وأوروبية مختلفة، كالقاهرة وتونس وباريس. وقبل انتقاله إلى رام الله، كان قد عُيّن في العام 1987 عضواً باللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
في العام 1988 عُيّن مستشاراً لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية، الراحل ياسر عرفات، فكتب وثيقة إعلان استقلال فلسطين، والذي قرأه ياسر عرفات يوم 15 نوفمبر 1988، خلال دورة المجلس الوطني الفلسطيني الـ19 المنعقدة في الجزائر العاصمة.
استقال محمود درويش من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بسبب اتفاقية أوسلو، التي وقعتها المنظمة مع إسرائيل في 13 سبتمبر1993 بالعاصمة النرويجية -حول الحكم الذاتي الفلسطيني- والتي عارضها بشدّة.
لكن وعلى الرغم من تلك المعارضة، فقد عاد درويش إلى فلسطين في العام 1994، وأقام في مدينة رام الله، العاصمة المؤقتة للسلطة الفلسطينية. وظلّ مناضلاً ومنادياً للوحدة بين أبناء شعبه إلى غاية مفارقته الحياة في صيف 2008.
وقد نشر آخر قصائده بعنوان "أنت منذ الآن غيرك" يوم 17 يونيو2007، منتقداً فيها التقاتل الفلسطيني الداخلي.
تزوج درويش للمرة الأولى سنة 1977 من رنا قباني (ابنة أخ الشاعر السوري نزار قباني)، بعدما التقاها في العاصمة الأمريكية واشنطن، انفصلا بعدها بـ9 أشهر قبل أن يعطيا نفسيهما فرصةً ثانية استمرّت لسنتين، ثم آلت بعد ذلك إلى الانفصال.
لاحقاً في منتصف ثمانينيات القرن الماضي تزوج محمود درويش من المترجمة المصرية حياة الحيني، لكنهما تطلقا بعد شهور قليلة فقط، ودون أي مشاكل. ولم يرتبط درويش رسمياً بعد ذلك بأي امرأة أخرى، حيث تفرّغ للشعر ولعمله السياسي الثوري ضد الاحتلال الصهيوني لوطنه فلسطين.
وكانت للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش طقوس وعادات يومية لا يرغب في أن يخترقها أحد، خاصة ساعات القراءة والكتابة، كان يتأنق في تلك اللحظات وكأنه ذاهب ليُقابل محبوبته. كان يلعب النرد كتسلية لرجل فضّل البقاء وحيدًا رغم آلاف المُحبين، يُفضّل الموسيقى على الكثير من الجلساء، ويشرب القهوة مُتجرعًا مرارة أقل من الغياب عن الوطن.
كان درويش، بعد خوضه الزواج والانفصال مرتين يعيش وحيدًا في شقته وكان رافضًا أن ينام عند أحد، ولا يرغب في أن ينام عنده أحد، باستثناء بعض الأصدقاء الذين يأتون إليه أحيانا من فلسطين، وكان مُعتادًا على النوم مبكرًا ويستيقظ صباحًا، فيبدأ بحلاقة ذقنه والحمام وتناول القهوة، ثم يلبس أجمل ثيابه وحذاءه، كما لو أنه سيذهب إلى موعد رسمي، ويجلس خلف الطاولة مُنتظرًا إلهام الكتابة "ليقتنص الوحي" حسب تعبيره، فكان يكتب صفحة أو صفحات وأحيانًا لا يكتب شيئًا، وكان يتحدث العبرية والإنجليزية والفرنسية، وكان يحب سماع الموسيقى التي غالبًا ما كان يستمع إليها أثناء الكتابة، وكان لديه مجموعة كبيرة من الأشرطة والأقراص الموسيقية، خاصة عبد الوهاب، وأم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، ويتابع المسلسلات التاريخية. أما تسليته فكانت في لعب النرد التي ينهمك في أجوائها، فيصرخ أحيانًا، ويغتاظ أخرى؛ إلا أنه، ورغم كل مُحبيه، كان يخشى من الموت وحيدًا دون أن يشعر به أحد.
ذهب محمود درويش إلى مدينة هيوستن وبالأخص إلى مركز تكساس الطبي في الولايات المتحدة الأمريكية ليجري عملية قلب مفتوح ودخل بعدها في غيبوبة جعلت الأطباء هناك ينزعون أجهزة الإنعاش كما كان قد وصاهم ليتوفى يوم السبت 9 أغسطس عام 2008 ويعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس الحداد ثلاثة أيام حزنًا على "شاعر فلسطين"، وتم دفنه في قصر رام الله وأعيد تسميته ليكون "قصر محمود درويش للثقافة".
من أهم دواوين الشاعر محمود درويش:العصافير تموت في الجليل، نلتقي بعد قليل، بعد عامٍ بعد عامين،عشرين حديقهْ،عصافيرَ الجليل، مضتْ تبحث، خلف البحر، عن معنى جديد للحقيقة، وطني حبل غسيل لمناديل الدم المسفوك في كل دقيقهْ، وتمددتُ على الشاطئ،هِيَ لا تعرف يا ريتا، أنا والموت، في شباك دارك. وأنا والموت وجهان، لماذا تهربين الآن من وجهي لماذا تهربين؟،إنني أرتشف القُبلَة من حدِّ السكاكين، تعالي ننتمي للمجزرهْ وغيرها.