الجمعة 19 ابريل 2024

التفكير النقدي والتفكير العلمي

مقالات16-3-2023 | 21:30

دكتور حسين علي أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس

يقول الفيلسوف الفرنسي ديكارت، في كتابه «مبادئ الفلسفة» متحدثًا عن قومه الفرنسيين وسائر الغربيين: «إن الفلسفة هي وحدها التي تميزنا عن الأقوام المتوحشين والهمجيين، وإنما تقاس حضارة الأمة وثقافتها بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها، ولذلك فإن أعظم نعمة يُنـعم الله بها على بلد من البلاد هي أن يمنحه فلاسفة حقيقيين».

وإذا كان ديكارت يقول - بوصفه فرنسيًا - «إن الفلسفة هي وحدها التي تميزنا عن الأقوام المتوحشين والهمجيين»، فإن ديكارت لو عاد مرة أخرى للحياة لقال إنني أعني بالأقوام المتوحشين والهمجيين أقطار منطقة الشرق الأوسط، خاصةً مصر التي كانت تعلو أرجاءها أصوات تنادي بهدم الأهرامات والآثار الفرعونية المصرية القديمة، وفي مقدمتها تمثال أبو الهول، وكذلك تقييد حرية المرأة، وختان الإناث، وإباحة الزواج من القاصرات، وفرض الجزية على المواطنين المسيحيين... إلخ.

لو عاد ديكارت مرة أخرى للحياة لقال إنني أعني بالأقوام المتوحشين والهمجيين أقطار منطقة الشرق الأوسط، خاصةً مصر التي وإن كانت تلك الأصوات قد خفتت قليلًا، فليس اقتناعًا وإنما توجسًا وترددًا إلى حين.

إذا كان ديكارت قد قال في كتابه «مبادئ الفلسفة»: «إن أعظم نعمة ينعم الله بها على بلد من البلاد، هي أن يمنحه فلاسفة حقيقيين».. فإن علينا أن نقول من واقع المشهد الحالي في منطقتنا العربية: «إن أشد نقمة يبتلي الله بها بلدًا من البلدان، هي أن يسلط عليهم فئة من غلاة المتشددين المتعصبين المتاجرين باسم الدين، من أجل تحقيق مآرب سياسية».

التفكير النقدي هو الذى يمنحنا القدرة على النظر إلى الأشياء وكأننا نراها لأول مرة، فنصاب بالدهشة جراء ذلك، ونرى الأشياء وكأننا لم نرها من قبل، فالنظرة النقدية تخلع عن وجه الأشياء قناعها العادي.

وعن طريق النقد نحن لا نبتعد عن الأشياء المعتادة في حياتنا اليومية، بل عن تفسيراتها وقيمتها المألوفة. ونحن لا نفعل هذا لكى نشذ عن الآخرين، أو لكى يقال إننا نفكر بخلاف بقية الناس، بل لأن وجهًا جديدًا للأشياء قد تكشف لنا فجأة، وجهًا مختلفًا عن ذلك الذى تعودنا عليه وسلمنا به فى لقائنا معه كل يوم.

النقد عندي هو جوهر الفلسفة، والنقد كما أفهمه لا يعني أبداً التطاول أو الشتم، أو التركيز على الجوانب السلبية وحدها، إنما يعني الفحص العقلي لكل ما يُعْرَض علينا من أقوال وأفعال لبيان مواطن القوة وجوانب الضعف.

وإذا كان العلم هو سبيل التقدم، فإن النقد هو سبيل التحضر والرقي لأن المجتمعات المتخلفة لا تعرف النقد، ولا تعرف معناه وبالتالي لا تمارسه.

نحن لا نعرف كيف ننقد نقداً عقلياً، وإنما نجيد المدح أو السب والشتم.

النقد الذي أقصده أبعد ما يكون عن هذين الأمرين. النقد الذي أعنيه والذي هو جوهر الفلسفة هو التحليل العقلي للأقوال والأفعال للكشف عن محاسنها ومثالبها، ميزاتها ونقائصها، إذن الميزات والمحاسن تأتي أولاً قبل العيوب والنقائص.

هذا عن التفكير النقدي أما التفكير العلمي فهو ليس مجرد حشد للمعلومات العلمية أو معرفة طرائق البحث في ميدان معين من ميادين العلم، وإنما هو طريقة في النظر إلى الأمور تعتمد أساسًا على العقل والبرهان المقنع - بالتجربة أو الدليل - العلم هو أولًا وأخيرًا منهج في التفكير، ولا يمكن أن نتصور وجود علم بلا منهج. فكل العلوم لها مناهجها، بل إنها تتقدم باستخدام مناهج جديدة. وإذا كنا ننظر إلى العلم باعتباره منهجًا، فإننا ننظر إليه على هذا النحو بغض النظر عن الموضوعات التي ندرسها بذلك المنهج، فليس العلم موقوفًا على نوع الحقائق التي يبحثها العلماء.

لأن الحقائق التي يبحثونها مختلفة، ورغم اختلاف موضوعاتهم فنحن نطلق عليهم جميعًا وصف «علماء»، والذى جعلهم يستحقون هذا الوصف هو منهجهم الذى اعتمدوا عليه فى البحث لا مادتهم التي يبحثونها.