بقلم – عزت بدوى
فى صيف عام ١٩٩٤ التقيت فى جامعة هارفارد الأمريكية الشهيرة ومجموعة من زملائى المحررين الاقتصاديين بأستاذ العلاقات الدولية فى الجامعة، وهو أمريكى من أصل هندى، وكانت المحاضرة حول السياسة الخارجية الأمريكية، ومدى ارتباطها بالحزب الحاكم وتطرق الحديث إلى كيفية صنع القرار فى أمريكا ومعاييرها المزدوجة فى قضية الصراع العربى الإسرائيلى، وانحيازها الأعمى لإسرائيل بغض النظر عن الحزب، الذى ينتمى إليه الرئيس.. كما تطرق الحوار إلى محاولة فهم العلاقات بين الكونجرس ورئيس أقوى دولة فى العالم، وأيهما صاحب القرار، الفصل إذ ما اختلفت وجهات نظرهما بشأن إحدى القضايا الدولية..
كنت وزملائى نبحث عن سبب مقنع لانحياز الإدارات الأمريكية المختلفة لصالح إسرائيل ضد العرب فى وكالة المحافل الدولية رغم بشاعة الجرائم، التى ترتكبها فى حق الشعب الفلسطينى وكان الرد الصادم لنا جميعًا، إن السياسة الأمريكية ثابتة بين الحكام.. والرؤساء متغيرون والثوابت الأمريكية فى الدفاع عن إسرائيل ومصالحها ولا يملك أى رئيس أمريكى أن يخرج عن ذلك وعلى العرب ألا يلوموا إلا أنفسهم لأنهم لايجيدون تسويق قضيتهم العادلة لدى الشعب الأمريكى وليس الإدارة الأمريكية، بينما الجاليات اليهودية، التى تتحكم فى صنع القرار الأمريكى بسيطرتها على الميديا والإعلام، وبالتالى الرأى العام الأمريكى، والأهم من ذلك فى الكونجرس الأمريكى يعد القرار النهائى فى هذا الشأن، وسواء كان الرئيس جمهوريا أو ديمقراطيًا فلن يغير فى الأمر شيئًا مهما أعطى من وعود فى حملته الانتخابية.
تذكرت تلك الزيارة المهمة لأمريكا هذا الأسبوع بعد صدور قرار الإدارة الأمريكية، فى الأسبوع الماضى بالتصديق على ميزانية المعونات والمساعدات الأمريكية فى العام المالى الجديد، التى أقرها الكونجرس الأمريكى للعمل بها بداية من سبتمبر القادم، التى تتضمن خفض المعونات الاقتصادية لمصر بمقدار ٩٥.٧ مليون دولار.
وتجميد مبلغ ١٩٥ مليون دولار من المعونات العسكرية أى وضعه فى حساب خاص وعدم صرفه لمصر إلا إذا حدث تقدم فى ملف احترام حقوق من الإنسان والمعايير الديمقراطية وجمعيات المجتمع الأهلى، التى يزعم بعض أعضاء الكونجرس الأمريكى، وخاصة من أبريل الماضى أن هناك تضييقًا على هذه الحريات وإن قانون الجمعيات الأهلية، الذى أصدره البرلمان يحد من نشاط هذه الجمعيات ويخضعها للسيطرة الحكومية.
ورغم العلاقات الاستراتيجية، التى تربط بين مصر وأمريكا والتطورات، التى شهدتها هذه العلاقات فى الفترة الأخيرة وخاصة بعد وصول دونالد ترامب للحكم واحتفائه بالرئيس عبدالفتاح السيسى وإشادته بما حققته مصر من نجاحات فى حربها ضد الإرهاب وتعهده بمساندتها ودعمها فى هذا الشأن لما يحققه ذلك من استقرار لمنطقة الشرق الأوسط، بل والعالم أجمع، إلا أن الكونجرس الأمريكى انحاز لآراء بعض المناوئين لمصر والحاقدين على ما حققته من نجاحات فى حربها ضد الإرهاب وآلة الإعلام الإخوانية وأعوانهم داخل لجنة المساعدات والمعونات الخارجية فى الكونجرس.
والذين يضغطون منذ فترة ليست بالقصيرة من أجل تجميد هذه المعونات واستخدامها كورقة ضغط على مصر للتأثير على إرادتها أو التدخل فى شأنها الداخلى لتحقيق أهدافهم فى زعزعة استقرارها وأمنها القومى رغم فشلهم الذريع فى ذلك مع تجميد هذه المعونات عسكريًا واقتصاديًا فى عهد الرئيس السابق باراك أوباما منذ ثورة ٣٠ يونيه ٢٠١٣.
قرار الخفض والتجميد لبعض المعونات الأمريكية لمصر فى الأسبوع الماضى والذى طال ٢٩٠.٧ مليون دولار أمريكى من هذه المعونات، والبالغة مليارًا و٥٥٠ مليون دولار عسكريًا واقتصاديًا منها ١.٣ مليار دولار معونات عسكرية و٢٥٠ مليون دولار معونات اقتصادية لم يأت فى إطار لعبة القط والفأر، التى لجأت إليها الإدارة الأمريكية فى معوناتها العسكرية والأمريكية لمصر منذ انتخابات البرلمان المصرى عام ٢٠٠٥.
بغض النظر عن الإدارة الأمريكية، التى تحكم وسواء كان الرئيس الأمريكى ينتمى للحزب الديمقراطى أم ينتمى للحزب الجمهورى فقد ذهب الرئيس الأمريكى باراك أوباما ووزيرة خارجيته المتغطرسة كونداليزا رايس، وجاء دونالد ترامب ووزير خارجيته ريكس تيلرسون ورغم تعنت أوباما مع مصر وعدائه لثورة شعبها فى ٣٠ يونيه ٢٠١٣ وتجميده للمساعدات العسكرية والاقتصادية لمصر ورفضه تسليمها طائرات F-١٦ التى كان قد حل موعد استلامها وإلغائه لمناورات النجم الساطع التدريبات العسكرية المشتركة للقوات الأمريكىة مع الجيش المصرى فى مصر كل عام إلا وصول ترامب للسلطة ودخوله البيت الأبيض وإعلانه دعم ومساند مصر فى حربها ضد الإرهاب وإشادته بما حققته من إنجازات فى هذه الحرب وتعهده بمساندتها ودعمها سياسيًا واقتصاديا لم يمنع إدارته من التصديق على ميزانية المساعدات والمنح الأمريكية الخارجية، التى أقرها الكونجرس الأمريكى، التى تتضمن خفض المساعدات الاقتصادية لمصر بمقدار ٩٥.٧ مليون دولار، وطلب وزير خارجيته ريكس تيلرسون تجميد مبلغ ١٩٠.٥ مليون دولار أمريكى من المنح العسكرية بدلًا من خفضها وبمعنى آخر شالوا “أوباما” وحطوا “ترامب” والقرار الأمريكى باللعب بورقة المعونات الأمريكية مع مصر لم يتغير.
رغم أن اللعب الأمريكى بورقة المعونات الخارجية فى علاقتها الدولية وربطها بالإصلاحات السياسية الداخلية وحقوق الإنسان، التى لم يبرز إلا منذ عام ٢٠٠١ عقب أحداث سبتمبر وتدمير برجى نيويورك، إلا أن محاولة استغلال هذه المعونات فى نشر المبادئ الأمريكية دوليًا لم يبرز على السطح بشكل جدى إلا منذ عام ٢٠٠٥ خاصة، بالنسبة لمصر حينما بدأت اتصالاتها بالمعارضين لحكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك، ولاسيما جماعة الإخوان المسلمين ومن هنا بدأت المطالبة فى إجراءات الإصلاحات السياسية وملفات الأقليات وحقوق الإنسان فى مصر واستخدمت ورقة المعونات فى هذا الضغط فى هذا الشأن ثم لجأت إلى تمويل أنشطة بعض الجمعيات الأهلية فى مصر دون علم الحكومة المصرية وتدريب كوادرها وهو الأمر الذى كشفته وفضحته الوزيرة السابقة فايزة أبو النجا، وزيرة التعاون الدولى حينما تصدت لهذا المخطط ورفضت الاختراق الأمريكى للسياسة الداخلية المصرية وأحالت هذه الجمعيات للنيابة العامة والقضاء، رافضة أية معونات أمريكية مشروطة لمصر، ومؤكدة سيادة الإدارة المصرية التى لاتقبل المساومة أو المساس بأمنها القومى.
ورغم دعم الإدارة الأمريكية للإخوان ومساندتهم فى الوصول إلى حكم مصر بعد تعهد الإخوان بتحقيق مصالحهم فى مصر والمنطقة بالكامل وبإعادة تقسيم المنطقة إلى دويلات وإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط الجديد، التى وضعتها الإدارة الأمريكية، كانت الصدمة للإدارة الأمريكية بثورة المصريين على حكم الإخوان والمرشد فى ٣٠ يونيه والإطاحة بممثلهم محمد مرسى من قصر الاتحادية لتلجأ الإدارة الأمريكية من جديد إلى سلاح المعونة الأمريكية من فى محاولة لإثناء المصريين عن إرادتهم فى عزل مصر والتأثير على قرارهم وتم تجميد كافة المعونات الأمريكية لمصر عسكريًا واقتصاديًا، لكن الإرادة المصرية ممثلة فى الرئيس عبدالفتاح السيسى والمؤيدة بأغلبية شعبية كاسحة لم تسبق لأى رئيس من قبل رفضت كل الضغوط الأمريكية ولم تسمح لأى كائن من كان أن يتدخل فى الشأن الداخلى المصرى أو التأثير على إرادة شعبية، سواء بالمال أو غير المال.
وإذا كانت مصر تستفيد من المعونات الأمريكية منذ إقرارها عقب اتفاقية كامب ديفيد عام ١٩٧٩ بواقع ٨٠٠ مليون دولار أمريكى سنويًا كمعونات اقتصادية مقسمة على ثلاثة برامج رئيسية، وهى برنامج الحاصلات الزراعية، والذى كان مخصصًا لشراء المحاصيل الزراعية الأمريكية مثل القمح والدقيق وبرنامج المشروعات، الذى يمول مشروعات البنية الأساسية كالتعليم والصحة والكهرباء والثالث برنامج الاستيراد السلعى، الذى يمول استيراد القطاعين العام والخاص للمواد الخام الأمريكية واستمرت هذه المعونات بهذا الحجم منذ عام ٧٩ وحتى عام ٩٩ ثم تقلص هذا المبلغ بعد انتهاء الحرب الباردة ليصل إلى ما بين ٢٠٠ إلى ٢٥٠ مليون دولار فقط منذ عام ٢٠١٠ وحتى الآن .
كما تستفيد من المعونات العسكرية البالغ حجمها ٣،١ مليار دولار فى تحديث أسلحة قواتها المسلحة من طائرات وخاصة F١٦ وبوينج ودبابات M١ وماحدث بها من تطوير وضمان صيانة وتحديث هذه الأسلحة بجانب التدريبات العسكرية لضباطنا وهى المعونات، التى لم تشهد أى تخفيض منذ إقرارها عام ٧٩ وحتى الآن . إلا أن الفائدة والعائد من هذه المعونات كان يذهب إلى الجانب الأمريكى، بل بعض التقديرات تذهب إلى ٧٠٪ من هذه المعونات عادت لأمريكا فى صورة دعم الفلاحين حتى تسويق محاصيلهم وزيادة فى أسعار المنتجات الأمريكية على مثيلتها العالمية لاشتراط ضرورة الشراء من أمريكا بجانب رواتب ومكافآت الخبراء والمستشارين الأمريكان لهذه المشروعات .
نعم العلاقات الاستراتيجية بين مصر وأمريكا أكبر بكثير من رقم هذه المعونات فمصر دولة محورية لاتستطيع أية دولة فى المنطقة أن تؤدى دورها سواء فى الحرب أو السلم وهى رمانة الميزان فى منطقة الشرق الأوسط بالكامل وحاجة الولايات المتحدة لها ولدورها الإقليمى وفى محيطها العربى والإفريقى والإسلامى أكثر بكثير من حاجة مصر إليها ومن هنا فالقضية ليست قضية رقم الدعم الذى تراجعت قيمته إلى أقل من ١٪ من الناتج المحلى الإجمالى المصرى ولايساوى شيئًا يذكر فى فاتورة استهلاك المصريين التى تتجاوز ١٠٠ مليار دولار فى العام الواحد. إذا كان اللاعبون بالنار يلعبون بورقة المعونات الأمريكية للتأثير على القرار المصرى والسيادة المصرية والإرادة المصرية فعليهم أن يعلموا جيدا أن مصر لم ولن تسمح لأحد بالتدخل فى شأنها الداخلى، وأن كافة قراراتها تنبع من إرادتها الحرة المستقلة وإن علاقاتها الدولية مع كافة دول العالم صغيرها قبل كبيرها تقوم على المصالح المشتركة بين الطرفين ولاتخضع للابتزاز والتهديد .
وإذا كان اللاعبون بالنار أيضًا يراهنون على المعونات فى إثناء الإرادة المصرية الشامخة فى تنويع مصادر سلاحها مابين الشرق والغرب أو تزويد قواتها المسلحة بأحدث ما أنتجته الترسانة العالمية أسلحة، سواء من الشرق أو الغرب للحفاظ على تفوقه ومكانته العالمية من بين أقوى جيوش العالم أو إثنائها عن بناء اقتصادها الوطنى ودعم بنيته الأساسية ودخول عصر الطاقة النووية السلمية، فإن رهانهم خاسر لأن إرادة المصريين فوق كل اعتبار وقرار المصريين من إرادتهم المستقلة والتى تحقق مصالحهم، التى يستهدفونها وهم يعرفون هدفهم جيدا دون وصاية من أحد.